عمرو منير دهب يكتب: فاتن الكُتـــَّــاب

nasdahab@gmail.com

الشعر هو الغواية التي لم يكد يسلم منها كاتب، وللدقة أقول “كاتب عربي”، فرغم يقيني بأن سحر الشعر قد شمل الإنسانية جمعاء – منذ عرفت التعبير اللغوي الموزون وإلى أن ثارت على الوزن والقافية – فإن سيرة العرب مع الشعر والشعراء هي قصة حب طويلة عريضة لا تزال فصولها تتجدّد كلّما همّ ناقد حداثي (حسن النية؟) بأن يضع النقطة على ما يخاله الكلمة الأخيرة في آخر فصول القصة البديعة والمراوغة.

وإذا كانت القصة مراوغة لأنها توهم بزوالها ثم تعود إلى الحياة متألقة مغوية مع مثير عابر يستفز النفوس التي تهزها نشوة الطرب فيهيج ذاكرتَها وأحاسيسها مع الشعر، فإن القصة بديعة لأن الحب بديع حتى عندما يستعصي على الفهم، بل إن روعته تبلغ غايتها وهو يستعصي على الفهم.

ولكن قليلاً من الصبر يكفي لتفسير ولع العرب تحديداً بالشعر حتى إذا بدت سيرته معهم مراوغة وهي تتقلّب بين الصفوة والعامة ثم بين “العجائز” وشباب الإنترنت مؤخراً، فقد ظل الشعر هو فن القول الذي حوى سائر فنون الحياة كما اشتهاها العرب واستوعب استجاباتهم النفسية بما أنِست إليه من المبالغة في الحب والبغض والفخر والمدح والرثاء والهجاء وكل ما يصلح أن يُتغنـــّـى به ويُبالغ في التغنـــِّي.

عندما تروج السلعة في الأسواق يكثر من ينسج على منوالها، وقد راج الشعر في أسواق العرب فراج النسّاجون من الشعراء على منوال امرئ القيس. وربما نبدو مجدداً أمام سؤال البيضة والدجاجة، فمن الذي اخترع الآخر: الشاعر أم الجمهور؟ وإن يكن السؤال الأهم هو: من الذي يغوي الآخر ويلهمه الاستمرار في الإذعان للغواية: الشاعر أم الجمهور؟ وقصارى أملي ألّا يتعجل أحد فيقطع بالإجابة: الشاعر، فـ”الشاعر البيضة والجمهور الدجاجة” (أو العكس) منطقة فلسفية شائكة أحرى أن يتم الاقتراب منها للتصوير بداعي اكتشاف مواطن الجمال والمتعة ثم الفائدة بعيداً عن المنّ بفضل أحد الطرفين على الآخر في تحقيق الوجود والاستمرار فيه إلا ما كان على سبيل المِنَّة إقراراً بالفضل المتبادل.

ليس غريباً إذن والحال كتلك أن تتسابق المواهب وهي تتحسَّس ما لديها من عشق الكتابة إلى سجن الوزن والقافية انطلاقاً إلى فضاء الجمهور الرحيب، أو وقوعاً في أسر الشهرة في أحضان ذلك الجمهور، لا فرق.

اتجاه السير لدى الكُتاب في طريق الأدب من الشعر إلى النثر وليس العكس، فقلّما (وأقول قلّما تحوّطاً وأنا أمْيَل إلى القطع بـ “لا”) نجد أديباً بدأ كاتب قصة أو مقال ثم تفتقت موهبته الشعرية لاحقاً وهو “عجوز”، والنابغة الذبياني نفسه نبغ في الشعر فجأة وفي عمر متقدِّم نسبياً وليس مطلقاً، كما إنه لم يجرِّب كتابة القصة القصيرة على طريقة تشيخوف ثم عدل عنها إلى نظم الشعر على طريقة المعلّقات، بل بدأ شاعراً وربما آثر أن يرجئ إعلان شاعريته على الملأ، لا أكثر.

واتجاه السير المشار إليه هذا أكبر الأدلة على غواية الشعر الفريدة التي تهيِّئ لكل كاتب أن بإمكانه أن يصبح شاعراً، وظني أن من لم يـُعرَف عنه تجريب الشعر من الكُتــّـاب إنما كتب محاولاته الشعرية ودسّها – في قرار حكيم – عندما علم أنه لم يُولد ليكتب على وزن وقافية وإنما ليُرسل الكلام على عواهن موسيقى الألفاظ التزاماً بقيود دلالاتها المعنوية فحسب.

“برستيج” الشاعر لا يزال – برغم الاختلاف في تسمية هذا الزمان رجوعاً إلى تصنيفات أدبية – هو الأعلى بين مقامات الكُتــّـاب، ولم يتورّع بعض نقاد الغرب عن أن يُنزلوا الشعراء منزلة الأنبياء تشبيهاً للإلهام بالوحي، وربما لما هو أبعد من ذلك في عرفهم، ثم أخذ بعض نقاد العرب اليساريين (أظنه محمود أمين العالم) ذلك التشبيه فذهب به أبعد من ذلك في مقام القداسة.

وبسبب ذلك “البرستيج” الذي يخلعه الناس على الشعراء ترتفع “أنا” الشاعر فتعلو “أنَواتِ” الكُتــّـاب من كل جنس ولون أدبي، وتكاد تلك “الأنا” الشاعرية تمدّ لسانها إلى رصيفاتها الأدبية وهي تحلق فوقها في جذل وخيلاء.

بدأتُ شاعراً كلاسيكياً يرى الخروج على عمود الشعر – تقليديِّ الشكل والمضمون والهوى والامتثال – ضلالاً أدبياً يستوجب النفي من الوجود لا من ساحة الكتابة فحسب، ثم جرؤتُ فعمدت إلى محاولة تذوّق الشعر غير الكلاسيكي مما يحافظ على عمود الشعر، ثم شعر التفعيلة الذي يقف بأعمدة معوجّة من منظور الفراهيدي (لو قدِّر له أن يعلِّق عليه)، ثم قصيدة النثر التي تقف بلا أعمدة ولا سقوف.

لا أذكر بوضوح محاولات نادرة لي لكتابة شعر التفعيلة، غير أنني أتذكر تماماً افتتاني بأدب القصة القصيرة ومحاولاتي النسج على منوال تشيخوف ومن هم أقصر نفساً من مروّجي بدعة القصة القصيرة جداً. ثم وقفت أسائل نفسي: ما الذي يحدو بي إلى الخروج من سجن أوزان الشعر وقوافيه إلى معتقل القصة بما فيه من مقتضيات فنية مستترة لا تقل حرجاً أحياناً فيما تتطلّبه من رياضة فنية عمّا تستلزمه موسيقى الشعر؟ (بتجاوز مقتضيات الأخير الفنية فيما وراء الموسيقى).

وإذ استقر بي المقام على ما يبدو عند أكثر فنون القول طلاقة من حيث رياضة الأفكار والتعابير (لا أقول بلا قيود وإنما بما يشاء الكاتب أن يضعه لنفسه من القيود)، فإنني أهنأ بثباتي في وجه فتنة الشعر مهما تصاعدت داخلي هواجس الشاعر الذي كان بالعودة إلى مراتع الكتابة الأولى، لا يُعكر من صفو هنائي ذاك سوى سؤال المقرّبين ممن يسوؤهم أن لا يروني أرفل في “برستيج” الشاعر وحول رأسي الهالة التي يصطفي بها العرب الغاوين على كل مَن بضاعتــُه الكلام: لماذا لم تعد تكتب الشعر؟

Exit mobile version