عمرو منير دهب يكتب: غيرة الكُتـــَّـاب

nasdahab@gmail.com

ليس في الكُتّاب من الأخلاق شيء غير موجود في سواهم من البشر، فلا هم ملائكة ولا هم شياطين، وإن يكن كثير من استجاباتهم العفوية على صعيد الأخلاق يقذف بهم إلى خانة أقرب إلى إرضاء الطائفة المتعوَّذ منها من المخلوقات غير الإنسية، ومع النفس الأمارة بالسوء لا يغدو في الأمر ما يدعو إلى العجب إلا عندما يزعم الكُتّاب لأنفسهم مكانة فوق البشر.

ذلك المذهب في النظر إلى مقام الكُتّاب يزعج على الأغلب المبدعين جملة واحدة لا الكُتاب وحدهم، فالفكرة التي روّج لها المبدعون وأنِس لها المتلقــُّـون أنّ للمبدعين “رسالة” تجعل على رأس الواحد منهم “هالة” من التبجيل أشرنا إليها في مقام قريب.

الأغلب أن ذلك شاع عندما كانت العلوم الإنسانية هي اختراع البشرية الأول في النظر إلى الوجود من منطلق بات يُعرف لاحقاً بالأكاديمي، فأدرك الناس سحر المعرفة للمرة الأولى من خلال تلك العلوم التي هي في جملتها مما ينتمي بصلة قريبة – وأحياناً مباشرة – إلى الأدب والفن، ويصل إلى الناس عبرهما حتى إذا كان متحاملاً على بعض أشكالهما كما لدى أفلاطون في مدينته ذائعة الصيت.

وإذا كان الإغريق هم أول من استحق الاتهام بإضفاء التبجيل على الآداب والفنون، فإن العرب – منذ الجاهلية – متهمون بتبجيل الآداب في صورها التي تيسرت ذلك الحين، وهو اتهام لا يزال يحب أن يزهو به كل عربي يسري الشعر من روحه فوق مسرى الدم من الجسد عندما يتعلق الأمر بتأثير حالة الهيام والانجذاب التي تخلعها الكلمة المُمَوسقة على مشاعر وكيان الجماهير.

لا تثريب على مبدعي الآداب والفنون إذا حملهم التقدير الضافي من الناس على أن يخالوا أنفسهم فوق أولئك الناس بدرجة أو أكثر (رجوعاً إلى حظ كل مبدع من الأهمية ومن التواضع على السواء)، فلا مشكلة في ذلك إذا كان لا بدّ للبشر من أن يتباينوا في الحياة بحظوظ متفاوتة من الموهبة والنعمة تجرّها الموهبة (أحياناً؟)، ولكن ثمة مغالطة ليس من الحكمة تجاوزها عندما ينصرف جزء مقدّر من تبجيل أصحاب المواهب الأدبية إليهم بوصفهم أسمى في المنزلة الأخلاقية استناداً إلى معنى الأدب “الرِسالي” المشار إليه وإلى “الهالة” التي تتبعه على سبيل التنزيه لا الإعجاب والتقدير بوجه عام.

ولأن الأدباء بشر من لحم ومشاعر فليس غريباً أن يجترحوا من الآثام على اختلافها ما يستحثه اللحم وتثيره المشاعر، وليس في أعرافهم ولا تفاصيل أوصافهم الوظيفية ما يمنع ذلك، بل أذهب أبعد فأقول بأن الوُعّاظ والدعاة يجترحون من الأخطاء ما تغري به طبيعة تكوينهم البشري ووصفــُـهم الوظيفي مبنيٌّ على التحلِّي بالترفع عن الآثام والدعوة إلى مثل ذلك.

لماذا إذن نتخيّل أن كاتباً كائناً من كان يمتلك من هيبة المقام ما يوجب الاقتداء به سلوكاً لا أثراً أدبياً فحسب؟ أهو سحر النجومية يخلع أثره أبعد مما قــُدِّر لصاحبه في تفاصيل عمله الفنية؟ الأرجح أن الأمر أكبر من ذلك، فسحر الإبداع الأدبي يتجاوز نجوم الكتابة إلى من يعمل بها دون منزلة النجوم، وهو سحر حلال لا ضير فيه على نحو ما أشرنا سوى حين يأبى إلا أن يمدّ سطوته خارج الإلهام الأدبي إلى الاقتداء الأخلاقي إيحاءً بأن تفرُّد الكُتّاب ينبسط على ذلك الصعيد أيضاً.

لا يُنزل المترفع أخلاقياً من عليائه المتخيّل مِثلُ سلوكه إزاء سفاسف الأمور التي تدغدغ صغائر المشاعر، وعند هذه المنطقة من الأفعال وردودها يتساوى الناس في منزلة جديرة بالتأمُّل، وهم إذا تباينوا إنما يفعلون رجوعاً إلى نفسية كل منهم وضوابط سلوكه بعيداً عن المهنة والمكانة التي يفترضونها لأنفسهم أو يخلعها المجتمع عليهم راضين مرضيين.

يخوض الكُتاب ما اتُّفِق في الإشارة إليه بالمعارك الفكرية أو المعارك الأدبية، وهي معارك كثيراً ما تتضمن من الدوافع ما لا يمت إلى الأدب أو الفكر بصلة قدرَ ما يشي بالميل النفسي إلى طائفة من الناس أو حتى مذهب في التفكير ولكن بمرجعية انحياز شخصي وليس لأسباب اصطُلح على تسميتها بالموضوعية قلّما نقع عليها، إنْ في معارك الأدب أو معارك الحياة.

وإذا كانت المواقف العقدية، ديناً أو فكراً، مما يدخل على المعارك فيجعل صفة الموضوعية معها في حكم أقرب إلى المستحيل، فإن المواقف النفسية – المستتر منها والظاهر – أنكى أثراً، فهي تكاد تقذف بالموضوعية إلى غــَـيابة المستحيل وتقيـِّدها هناك.

ما الذي يمكن أن تشمله تلك المواقف النفسية أدنى من الغيرة؟ وما الذي يمكن أن يدفع إليه رد فعل في معترك أدبي ولا يكون مكتنــَــفاً بالغيرة؟ موقف الكاتب الغيور – مهما يكن مُجيداً ومرموقاً – لا يختلف كثيراً عن موقف طفل صغير أو امرأة فاتنة أو زميل عمل مولع بالمنافسة من الصفة نفسها سوى أن الطفل الصغير أكثرُهم براءة وأقلّهم خطراً عندما يتعلّق الأمر بالأثر الماحق للغيرة على الخصوم.

الغيرة ليست قدَر الكاتب الأدنى موهبة فقط مثلما أنها ليست قدَر الأنثى الأدنى جمالاً – بمعيار ما – وحسب، فقد يغار كاتب رفيع الموهبة من كاتب متواضع الحظ منها لمجرد أن الأخير أكثر حظاً في الظهور وأوفر حظوة عند طائفة أو أخرى من الناس، تماماً مثلما تغار حسناء من فتاة حُسنها أقل فتنة ولكنها مليحة الحديث ودودة ومحظية لذلك.

وعليه، فلا غرابة من أن يكون موقف الكُتّاب من زميلهم يُصدر عملاً حديثاً أشبه بموقف نساء الحي من جارتهم تضع مولوداً جديداً. وأزِيدُ بتأكيد ما بدأت به الحديث فأقول ولا غضاضة في ذلك إلّا إذا أصرّ الكُتـاب على أن يصعدوا بمشاعرهم فوق النساء والأطفال والطينة التي خــُلِق منها كل من أبوه آدم وأمه حواء كتب أم لم يكتب.

Exit mobile version