السودان.. من تحدي الوجود لإنجاز النهوض

 د. أحمد الدعاك

 

أما وقد وقعت الواقعة، فالسودان اليوم في مفترق طرق، إما انزلاق تام في هوة الفوضى والضياع، أو انتزاع عصي لنشأة مستأنفه من براثن المستحيل. وكلا الخياران يعتمدان في الأساس على الكيفية التي ستنهى بها الحرب، وهو واحد من احتمالات ثلاث، تفاوض تفرضه حالة توازن الضعف تنتج عنه معادله سياسة يحافظ بها الدعم السريع على ما تبقى من قوته العسكرية وينال وضعية سياسية معترف بها دولياً، مما يعني إبدال الانهيار السريع للدولة السودانية بتحللها البطيء، أو انتصار مليشيا الدعم السرع وانهيار الجيش السوداني مما يترتب عليه ضرورة اقتلاع الدولة والثقافة والمجتمع السوداني من جزوره، كتكرار مأساوي لظاهرة اجتياح المحيط الرعوي للمركز الحضري الذي ميّز تاريخ دول الشرق وشمال أفريقيا ،ليس بدءاً من اجتياح التتار لبغداد أو انتهاء باجتياح القبائل العربية البدوية للدولة الموحدية في شمال أفريقيا. والخيار الأخير، والراجح وفق معطيات الواقع الآن، فهو الانتصار الحاسم للجيش السوداني مما يضع الأساس الموضوعي لاستأنف مشروع البناء الوطني الذي تقاصرت النخبة السودانية للنهوض به منذ الاستقلال. إذاً الحديث عن مستقبل للدولة السودانية الحديثة لا يستقيم إلا في حالة رجحان الخيار الأخير، وهو الانتصار الحاسم للجيش السوداني في هذه المعركة الوجودية التي يصعب التكهن بنتائجها النهائية، وذلك لأنها جاءت بدعاً عن كل الحروب. فالجيش السوداني الحديث نسبياً يواجه عدواً دوافعه وانفعالاته تنتمي لإنسان العصور الحجرية، فهي غريزية قحة لم تهذبها حضارة او تعقلها استنارة، مع بنية مؤسسية تنتمي للعصور الوسطى لطبيعتها القبلية وثقافتها الموغلة في الخرافة ورباطها القائم على العصبية، كآخر تجلي لنظرية بن خلدون عن نشأة الدول وزوالها. أضف إلى ذلك فإن الدعم السريع يمتلك منظومة إدارية وغطاء سياسي (قوى إعلان الحرية والتغيير) وتدريب عسكري ودعم دولي ولوجستي وعقل تخطيطي ينتمي للعصر الحديث، فضلاً عن أدوات تكنولوجية، كالذكاء الاصطناعي، تنتمي لعصر “ما بعد الإنسان” بمصطلح فوكويياما. هذا التراكب المدهش للازمان الذي يميز مليشيا الدعم السريع يجعل منه عدواً غير تقليدي، لن تأتي هزيمته إلا مع ترك عطوب شبه دائمة في وجدان الامة السودانية وتركيبة السودان المجتمعية وبنية الدولة الحديثة فيه.

لذلك، حتى في حالة انتصار الجيش الحاسم فأن تحقيق الاستقرار والحفاظ على الدولة ليس بالأمر اليسير، ويعتمد بشكل كبير على طبيعة نظام الحكم الذي يعقب فترة الحرب وقدرته على مخاطبة القضايا الجوهرية المتعلقة ببسط الامن، وبناء نظام بيروقراطي فاعل يقوم على معيار الكفاءة المحضة، وترسيخ حكم القانون وحماية الملكية، وإدارة الاقتصاد بالقدر الذي يمكن الدولة من توفير الخدمات الأساسية وإيجاد أطار مستقر يسمح بنمو المجتمع السياسي وتنظيم الممارسة السياسية ومأسستها. ولكيما يتحقق ذلك لابد أن يوفر النظام السياسي أعلي درجة ممكنة لقوة الحكم وسلطته المركزية. ففي مثل هذه اللحظات المفصلية من تاريخ الأمم فإن درجة الحكم اهم من نوع الحكم، فالسلطة يجب ان توجد وتركز اولاً قبل ان تقيد وتوزع. لكن التواضع على مثل هذه الخيارات العقلانية المفارقة لطبيعة الاجتماع السياسي يحتاج لتوافر وعي كبير بطبيعة المرحلة وإرادة استثنائية قادرة على ترجيح الخيارات والمسارات المعززة لمشروع البناء الوطني وتغليب الإستراتيجي على المرحلي. كما يحتاج إلى تجاوز بعض المسلمات وتصحيح بعض المفاهيم المهيمنة على الخطاب السياسي. فأولى هذه المفاهيم المغلوطة هو الخلط بين مطلوبات بناء الدولة وحكم القانون من جانب والنظام الديمقراطي والعملية الانتخابية من جانب آخر. فكل مرحلة قد تأتي مستقلة عن الاخرى، بل ومعلوم ان بناء الدولة البيروقراطية القوية وترسيخ حكم القانون يجب في كثير من الأحيان ان يسبق إيجاد نظام ديمقراطي، وذلك لقصور النظام الديمقراطي الضعيف تكوينا والفوضوي طبعاً حتى في أرسخ الديمقراطيات مما يجعل منه أقل النظم نجاعة لإنجاز مطلوبات الانتقال. فقد آن الأوان لتفكيك اختزال المشكل السوداني في غياب النظام الديمقراطي المستقر وتعدد الانقلابات العسكرية وقضايا الهوية. نعم هذه جميعاً مشكلات أضعفت من فرص نجاح بناء الدولة القومية الحديثة، فضلاً عن عطوب السودان التكوينية المتمثلة في حدوده المفتوحة على جوار فقير مضطرب ودولة قطرية ضعيفة اورثها نظام الاحتلال الإنجليزي وإدارته غير المباشرة ومناطقه المقفولة. لكن يبقي العامل الأهم من بين تلك العوامل هو الضعف التاريخي للدولة وعدم قدرتها المستعصي على ممارسة العنف المشروع لفرض القانون وتحصيل الموارد وإدارة التخطيط المركزي. وهذا الضعف البنيوي هو الذي أعاق النمو السياسي وانتهى لحالة تحلل الدولة التي تعد حرب أبريل آخر وأخطر تمظهراته والتي قد تعصف بكيانه بالكلية.

الفرضية الخاطئة الثانية التي تستبد بالعقل السياسي السوداني هو أن المؤسسة العسكرية مهدد دائم للعملية السياسية وليس من سبيل لتحقيق الاستقرار والنهضة إلا بإبعادها التام من أي دور سياسي. هذا النموذج النظري مقبول في الدول القوية والديمقراطيات الراسخة، لكن موغل في الطوباوية ومجانب لتجربة التاريخ القديم والحديث، الذي يؤكد ان تجارب الانتفال السياسي الناجحة لنظام ديمقراطي مستدام احتاجت في كثير من الأحيان لدور فعال تقوم به المؤسسة العسكرية كما في التجربة المكسيكية التي اعطي فيها الجيش دور المشرف والحامي لعملية الانتقال.

المسلمة الخاطئة الثالثة وهي التي تتبدي في عبارة “العودة للنظام الديمقراطي”. في حقيقة الامر ان السودان لم يحكم بنظام ديمقراطي منذ تأسيسه، وما يطلق عليها تجارب ديمقراطية هي خليط من النظم الإرثية (patrimonialism) أو الزبائينية (clientelistic)، وهو نظام يقوم على مقايضة السلطة بتوفير امتيازات وظيفية أو اقتصادية للنخب السياسية والزعامات الاهلية، وهذا يفسر العدد الهائل من الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني وتناسل الإدارات الأهلية والحركات المسلحة التي تعمل وفق هذه الصيغة الزبائنية التي تجلت في أوضح صورها في عهد الإنقاذ. وللمفارقة، ان النظام الزبائني هو الأقرب للنموذج الديمقراطي، بل لا يخلوا نظام ديمقراطي من درجة ما من الزبائنية، وعمل اللوبيهات في أمريكا هي أحد الأمثلة الشاخصة. وزبائنية نظام الإنقاذ هو الذي يفسر جزئياً استمراره لثلاثين عاماً وسقوطه عندما تراجعت قدرة السلطة لتوفير الامتيازات المطلوبة للنخبة السياسية الت تضخمت بفعل الحراك الاجتماعي الذي أحدثته ثورة التعليم العالي، جنباً إلى سخط التيار الإسلامي الملتزم وانحيازهم الصريح والمستتر لصف الثورة. فعندما سقطت الإنقاذ كان السودان غاب قوسين أو أدني ليتحول من النظام الزبائني الموروث لنظام ديمقراطي مستدام مدعوم بمعدلات النمو العالية في مؤشرات التنمية البشري، حيث أرتفع معدل التنمية البشرية بنسبة تفوق ال 25% بين العام 2000 و2020، كما ورثنا من الإنقاذ هجين من سلطة مركزية قوية نسبياً ونظام فدرالي آخذ في النضوج. لكن بعد الثورة تبدد الامل وأرتد السودان للنقيض الفعلي للنظام الديمقراطي، وهو ليس الاستبدادي كما يظن، وإنما الموبوقراطية (نظام حكم الحشود) الذي تبتنه قحت ازوراراً من المضي قدماً في تعبيد المسار الديمقراطي بعيد اختطافهم لثورة كان لهم فيها دور الممثل جيد الأداء. وعندما أستبد الدعم السريع بالأمر دخل السودان مرحلة الكلبتوقراطية (حكم الاختلاس) وأصبح حميتي هو زعيم اللصوص (thief-in-chief) الذي وضع يده على موارد البلاد ذهباً وزراعة وثروة حيوانية, وخبر السودان بحق عهد “النتل البدائي الغذر” والإفقار الشامل حتى اوردنا موارد الإحتراب ونذر الفوضى الشاملة. فاستصحابا للحال قبل اندلاع الحرب يتبين أتساع البون بين واقعنا السياسي والشروط الضرورية لتأسيس نظام ديمقراطي. لذا تعد المناداة بعودة النظام الديمقراطي بعد الحرب ضربة لازم هو ضرب من المزايدة والالتزام بمقتضيات الصحة السياسية في أحسن الأحوال، اما في حالة مجموعة قحت فهو استمرار لنهجها المعهود في التأرجح بين مطلقات رومانسية يستخدمونها لتحريك الحشود والهروب من الاستحقاقات الوطنية والتسويات الضرورية، وذرائعية فجة قادرة على التنازل عن كل المبادئ والثوابت الوطنية متى تبدأ في الأفق لعاعة سلطة.

فإذا تجاوزنا هذه المسلمات المعيقة، في تقديري، يمكننا إنجاز مشروع انتقال فعّال وصولاً لدولة المؤسسات وحكم القانون والديمقراطية المستدامة، وذلك بالتواضع على صيغة سياسية تراعي شروط الواقع وطبيعة الفترات الانتقالية. ومن مرتكزات هذه الصيغة، في تصوري، هو عقد مؤتمر قومي-دستوري تُمثل فيه كل القوي الوطنية من غير أي وساطة خارجية يستعاد بموجبه العمل بدستور 2005 وتعين رأس دولة وفق ما يقرره الدستور مع تخصيص دور رقابي وإشرافي للمؤسسة العسكرية على مرحلة الانتقال. كما ينتخب المؤتمر مجلس حكماء يوكل له إجازة حكومة كفاءات مستقلة والمفوضيات.

هذا الإطار السياسي المبسوط آنفا قد يساعد لعبور عقبات الانتقال وتجنب خطر التفكيك والحرب الأهلية المتطاولة، لكنه بالقطع ليس كافياً لتحقيق نظام سياسي عادل وفاعل ومستقر على المدى الطويل، وذلك لن يتأتى إلا ببروز بنية سياسية جديدة قادرة على تجاوز الانتماءات الطبيعية القبلية والجهوية، ونفي دور العنف وتقييد دور المال في العملية السياسية، مع وجود تيارات سياسية تتبني مشروعاً وفق السقف الوطني السوداني، و بأجندة برامجية، وأن تكون المرجعيات الفكرية والأيدولوجية بطانة لمشروع عملي زمني عقلاني معلق بالمستقبل ومتحرر من إحن الماضي وجراحاته. فمن الطبيعي ان يعد بروز مثل هذه التيارات في الواقع السوداني ضرب من المستحيل، لكن القفزات النوعية قي تاريخ الشعوب دائماً ما تعقب قفزة في مستوي الوعي بأثر من إلهام عظيم كنبوة أو فلسفة، أو بمكابدة ألم عظيم كتجارب الحرب والتنازع، واظن أن هذه الحرب التي نعيش ويلاتها ودمائها ودموعها إن لم تقدح فينا وعياً متجاوزاً لقصورنا التاريخي وتركز في روعنا إرادة صلدة لصياغة مستقبلنا المنشود.

Exit mobile version