واصل البروفسير عبد اللطيف البوني الأستاذ الجامعي والكاتب الصحفي حديثه عن التعايش السلمي في السودان “ولاية الجزيرة نموذجا”، وذلك بمنتدى جمعية إسناد لدعم السودانيين المتأثريين بالحرب اليوم “الأربعاء”، بحضور رئيس مجلس إدارة الجمعية الدكتورة أميرة الفاضل، وعدد من المهتميين والإعلاميين، وأدار الجلسة رئيس تحرير “المحقق” السفير العبيد مروح.
مرحلة انتقالية
البوني أشار في بداية حديثه أن التعايش السلمي بولاية الجزيرة هو مرحلة إنتقالية بين التداخل والإندماج في أعلاه وبين التفرقه والنزاعات في أسفله، وقال إن الجزيرة نموذج مثالي، لأن التعددية الإثنية بها حديثة، وتمت بصورة مصنوعة، وكانت محل للهجرات، مضيفا أن التنوع العرقي في الجزيرة والذي ارتبط بطبيعة النشاط الزراعي على مدى عقود، يمكن أن يكون عامل ثراء، وفي نفس الوقت يمكن أن يكون نقطة ضعف.
صناعة التخلف
وفي سرد تاريخي مترابط للعوامل التي أسهمت في تشكيل مجتمع الجزيرة، عرض البوني ماضي التركيبة السكانية للولاية، متحدثا عما فعله الإستعمار الإنجليزي في المنطقة، وقال إن الإنجليز قرروا أن تكون الحيازات الزراعية محدودة للمواطنين، لافتا إلى أن الاستعمار كان يريد عدم تطوير السكان بالجزيرة، وقال أرادوا تغيير الأرض على أن يظل الإنسان كما هو، كما منعوا تراكم رأس المال للسكان بمنع التجارة، مضيفا أنها كانت سياسات قمعية، الهدف منها أن يظل الإنسان قبل مشروع الجزيرة كما هو بعد المشروع، وتابع أن الاستفادة من الزراعة لم تكن للمزارع، واصفا هذه المرحلة بـ “صناعة التخلف”، مشيرا إلى نوعين من السكان أحداهما قرى للعمال “الكنابي” وأخرى للمزارعين، لافتا إلى أن ذلك بمرور الزمن أنهى البنية التحتية للقبيلة وأنه حلت محلها القرية، وقال إن الاستعمار ترك بنية حديثة.
مشكلة ديموغرافية
وفي مرحلة ما بعد الإنجليز، ذكر البوني أن الجفاف الذي حدث في الفترة ما بين 1974- 1984، خلق موجات كبيرة من النزوح من غرب أفريقيا للسودان وخاصة ولاية الجزيرة، وقال إنه ظهرت طبقة وسطى حقيقية، وكان هناك نمو غير طبيعي في قرى العمال، أحدث فرق بينها وبين قرى المزارعين، وأصبح السكن في قرى العمال غير صحي، مضيفا أن هناك مشكلة ديموغرافية حقيقية بالجزيرة قابلة للتوتر.
دخول المليشيا
وأشار البوني إلى آثار الحرب الحالية على الجزيرة ، وقال إن الموجة الأولى لدخول مليشيا الدعم السريع للولاية، وإن سياسة المليشيا كانت صعبة تجاه الكنابي، ودخل عدد منهم الدعم السريع ربما لمكاسب شخصية أو لحماية النفس، مستبعدا أن يكون السبب وراء هذا الدخول سياسي، مبينا أن هناك 5 آلاف معتقل لتعاونهم مع الدعم السريع، وأن ثلثهم من الكنابي والثلثين الآخرين من المزارعين، لافتا إلى أن هناك بعض السكان ذهبوا مع المليشيا وعادوا بعد ذلك، وأن هناك عناصر أخرى من السكان اختفت، وقال إن الدعم السريع خربوا كل شئ إلا أنه بعد خروجها من الولاية عادت الشراكات طبيعية وأن الجرح بدأ يلتئم ،والعلاقات بدأت تعود كما كانت، مضيفا أن الدين واحد بالجزيرة ولا توجد بها خلافات مذهبية، وأن ثقافة وسط السودان سائدة، مما يساعد على سرعة التعايش السلمي بالولاية.
التمييز الإيجابي
وأوصى البوني إلى ضرورة التمييز الإيجابي بالجزيرة، وقال إن الكنابي هي الجيل الرابع، وإنهم أصبحوا مواطنين، مضيفا أن هناك مشكلة في السكن بالولاية، ودعا إلى ضرورة أن يكون بها الحد الأدنى من مقومات العمل الصحي، وقال إن الوضع الديموغرافي بالولاية يحتاج إلى ضبط، مضيفا أن الخطط السكانية لأبناء القرية وسكان الكنابي أثبتت نجاحها من قبل، مؤكدا قابلية التعايش السلمي بالولاية وامتداده، وقال يمكن أن نسير في اتجاه اندماج قوي يصل إلى حد المصاهرة، مستدركا في الوقت نفسه أن انتكاسة التعايش السلمي واردة أيضا، وقال البوني يمكن أن نصنع مجتمع بتدابير مخالفة، مضيفا أن الحداثة فرضت نفسها، وظهرت التجارة وتعددت المحاصيل وأن ذلك أحدث متغيرات كبيرة في مشروع الجزيرة، ودعا إلى ضرورة تدخل الدولة بشكل إيجابي لإعادة تخطيط قرى العمال الكبيرة وتجميع قرى العمال الصغيرة.
محاولات للتسيس
كما لفت البوني إلى محاولات التسيس بالولاية والتي ربطت الكنابي بجهات سياسية، وإلى أن هذه المحاولات لم تنجح حتى الآن، مشيرا إلى بعض الجهات التي حاولت في حقب مختلفة التغلغل داخل مجتمع الجزيرة وتوجيه دفته لمصالح تخصها من بينها الحركة الشعبية بقيادة جون قرنق، وحركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، وكذلك حركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي، داعيا إلى ضرورة وجود قيادات طبيعية معتدلة يتم دمجها في المجالس المحلية حتى يكونوا روادا للتغيير، تلتف حولها الجماهير، مؤكدا أن أي إصلاح في مشروع الجزيرة سيخلق ازدهارا يتبعه قطاعات في التجارة والنقل وغيرها، وأن ذلك سيساعد كثيرا في التغيير، وقال إن هناك معطيات إيجابية في مشروع الجزيرة، وإن المطلوب أن الأمور تسير بتلقائية، مضيفا كان لابد من التدخل الإيجابي من الإدارة السودانية الولائية والإتحادية تؤدي إلى التعايش السلمي، وإلى اندماج يطبق في كل السودان، وخلص إلى أنه ليس هناك صراعا حقيقيا بالولاية وأن هناك إمكانية للإندماج القومي في الجزيرة، مشددا على أن ذلك يحتاج لسياسات ووعي.
مبادرة للتنبيه
من جانبه أكد رئيس تحرير ” المحقق” العبيد المروح مدير الجلسة أن السودان بلد متعدد الأعراق والثقافات، وقال إن السودان ظل في محاولات استغلال من قبل السياسين والطامحيين والخارج، مضيفا أن هذا التباين في البلاد يمكن أن يكون قنبلة موقوتة تنفجر في أي وقت، ويمكن أن يكون عاملا للتطور، لافتا إلى أن أهمية مبادرة الحديث عن التعايش السلمي في البلاد، وأنها للتنبيه لخطورة هذا الأمر، وقال في ظل انخراط الدولة في الحرب والصراع العسكري والذي قد يجعلها منشغلة عن هذا الموضوع المهم، ينبغي أن يكون هناك مبادرات مدنية لهذا التعايش السلمي.
التوصيات والمعالجات
وأوصى الحضور بضرورة المراجعة الأمنية للوجود الأجنبي في السودان، كما دعا الحضور إلى معالجات إقتصادية وإجتماعية اضافة إلى النفسية لحل الأمور في الجزيرة، وانقسم الحضور مابين مجموعة ترى أن الحل بالجزيرة هو إقتصادي بالدرجة الأولى، ومابين ضرورة المعالجات الإجتماعية التي ستساهم كثيرا في الحل، كما رأى البعض أن المسألة بالجزيرة سهلة ولكنها تحتاج إلى مجهود، وأن المدخل للحل إجتماعي مع وجود التوعية في ظروف الدولة الصعبة إقتصاديا الآن.
تغيير السياسات
وختم البوني حديثه بأن النزعة للقبلية بالجزيرة قابلة للعودة بدواعي جديدة، وقال نحتاج إلى تغيير السياسات داخل مشروع الجزيرة، مطالبا بايقاف الكنابي فورا، مضيفا أن الحديث عن مقومات التغيير قوية جدا، مشيرا إلى أن مشروع الجزيرة نفسه يحتاج إلى زراعة، وقال ليس بالضرورة أن يكون التغيير بالتصنيع الزراعي، وإن الزراعة نفسها يمكن أن تكون خطوة كبيرة على طريق هذا التغيير.
نقلا عن المحقق
