رأي

مانديلا: لا تطلبوا من الخارج أن يقاتل نيابة عنكم… الاستقواء بالخارج لا يبني وطنا

 

عبدالعزيز يعقوب

كان المساء يميل إلى الوقار حين دخل وفدٌ من السياسيين السودانيين حديقة البيت العتيق في كيب تاون. لم يكن البيت رسميًا، بل ذاكرةً متحركة للحكمة والنصال والعدالة، حيث تقيم روح مانديلا كما لو أنها لم ترحل. جلسوا في صمت، قبل أن يخترقه صوته، كما يُخترق الضمير حين يواجه الحقيقة دون وساطة،

 

مانديلا (رافعًا رأسه، صوته كالحجر… صلبٌ وشفّاف):

“ماذا جئتم تطلبون من جنوب أفريقيا، يا أبناء النيل؟”

 

أحد أعضاء الوفد (بتردد):

“جئنا نلتمس وساطة… أن تقنعوا الصين وروسيا بعدم استعمال الفيتو، حتى نفتح الطريق لتدخل أممي يوقف الحرب في السودان.”

 

ساد الصمت لحظة، قبل أن تنهض عين مانديلا كأنها تفتّش فيهم عن وطن مفقود وسقوط مروع.

مانديلا:

“هل سألتم أنفسكم: من الذي أشعل الحرب؟

ومن الذي يملك مفاتيح إطفائها؟

هل جرّبتم الصلح كما جرّبتم السلاح؟

هل خفتم من دمعة الأم وغضبة الشعب كما خفتم من سطوة السلاح والموت ؟

أنتم لا تطلبون السلام… بل تطلبون من العالم أن يُسقط عنكم وزر قرار لم تجرؤوا أن تتخذوه، وعبء وطن لم تعودوا قادرين على حمله.”

 

عضو آخر (بصوت منكسر):

“لكن الحرب طحنت الشعب، والمدن تشتعل، والجوعى بلا خبز، والنازحون بلا مأوى اللاجئون بلا أمل … ماذا نفعل؟”

مانديلا (بهدوء لا يخلو من الغضب)

“من خاف على شعبه، لا يستدعي الغريب… بل يُطفئ النار بثوبه وجسده إن اضطر.

الاستقواء بالخارج لا يبني وطنًا، بل يُؤجِّر السيادة بالساعة، ويُراهن على ضمير لا يخصه.

لا تطلبوا من الخارج أن يقاتل نيابة عنكم، فالحرب التي لا تملكون شجاعة إخمادها بأنفسكم، لن تُطفئها طائرات جاءت بلاضمير و لا حب ولا ذاكرة. ومن يقاتل لأجلك وليس منك يريد الثمن؟؟ فهل ستدفعون؟؟؟”

 

ثم صمت برهة، كمن يستدعي ذاكرة جريحة، وقال:

“حين صافحتُ يدي كليرك، لم يكن قلبي صافيًا، لكن كان الوطن أكبر من جراحي.

وحين خرجتُ من السجن، لم أطلب ثأرًا ممن سجني، بل طلبتُ دستورًا وعدالة تحفظ حقي وحقوقهم.

وحين خذلتني دول كثيرة، لم أطلب منها جيوشًا، بل طلبت من شعبي أن يكون جيشًا من الحكمة والإنصاف والضمير.

هل طلبتم من شعب السودان أن تطلبوا تدخلاً؟

أم أنكم تبحثون عن حل في نيويورك لأن الخرطوم لم يعد لكم فيها بيتٌ ولا أنصار؟”

أحدهم حاول التبرير:

“لكن الطرف الآخر لا يؤمن بالسلام…”

 

قاطعه مانديلا بعين ثابتة:

“كنتُ أقاتل نظامًا يراك ناقصًا بسبب لونك، ومع ذلك دعوتُ إلى التفاوض.

فما بالكم أنتم؟ أبناء وطن واحد، تتشابه لهجاتكم، وتتوحد مآتمكم؟

لديكم شعبٌ عظيم، له أفضال على حركات التحرر الأفريقية والعربية ، ونحن منها.

هو البوصلة إن أردتم، وهو السند إن صدقتم.

فإن لم تقدروا على صناعة سلامٍ من لحمكم ودمكم، بمساندة هذا الشعب، فلن تصنعه لكم قوات زرقاء فشلت في رواندا وليبيا والصومال وغيرها.”

 

ثم التفت إليهم، كما يلتفت القائد إلى من خذلوه دون أن يكرهوه، وقال:

“جنوب أفريقيا لن تكون بوابة لتدويل الخراب، لكنها لن تغلق قلبها عن شعبٍ يُذبح في الصمت.

إن أردتم وساطتي، فاجعلوا من السودان وطناً قابلًا للوساطة.

عودوا إلى الخرطوم، وتصالحوا مع أنفسكم أولاً، ومع شعبكم.

اديروا معركة الوعي، وقودوا حوارًا يقوم على الحقيقة والإنصاف.

اجمعوا السلاح، وتوجهوا نحو البناء والتعمير…

قبل أن يتقاسم الأعداء بلادكم كما تُقسم الغنائم في ظلال الخراب.

ولا تنتظروا أن يسقط السلام من السماء، بل ابنوه على الأرض، ولو من الطين والدمع.”

 

ثم نهض ببطء، كمن يغادر مشهدًا لا يليق بحلمه، وقال بصوت خافت:

“إن أسوأ أنواع الخيانة، أن يختار القائد الكسل الأخلاقي، والحلول السهلة، في وجه معاناة شعبه.

وحين تفشل السياسة، لا تُعاقب بالبند السابع… بل تُحاكم أمام الشعب، وأمام التاريخ.”

ثم اختفى.

 

وفي الطريق إلى المطار، كان أحدهم يحدّق في البندٍ السابع من ميثاق الأمم المتحدة، يتأمل تلك العبارات الباردة عن “الإجراءات القسرية” و”التدخل لحماية المدنيين”.

همس لنفسه “البند السابع لم ينجح إلا في تحرير الكويت وكوريا الجنوبية من غزو اجنبي … أما في أفغانستان، العراق، ليبيا، والصومال، فلم تكن النهايات إلا مزيدًا من الدمار و الرماد.”

 

لكن العبارة الأخيرة لمانديلا كانت قد حُفرت في ذاكرته “من سيحمل الراية بعد أن تسكت البنادق؟

ومن سيُعيد للناس حقهم في وطن، لا مجرد هدنة فوق ركام مدينة محترقة؟”

 

غادر الوفد المنزل العتيق في كيب تاون إلى عواصم الدسائس والخراب، بعد درسٍ في الوطنية وحبّ الأوطان من روح زعيمٍ لم يمت.

خرجوا مطأطئي الرؤوس… مثقلين بصمتٍ لم يكن هذه المرة من العجز، بل من الخجل.

خجلٌ يجعل من يطلب التدخل الخارجي يتمنى الموت ألف مرة… قبل أن يُفرّط في دم شعبه، أو يؤجِّر سيادة وطنه على مذبح المراهنات الدولية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى