عمرو منير دهب يكتب: مللت الاختيارات… أريد قيداً

nasdahab@gmail.com

“ما هذا الملل؟ بوفيه مفتوح من عشرين صنفاً فقط!”، كاد يقولها حرفياً زميل ابتُعث لمهمة رسمية وأُنزِل في فندق مرصّع بخمس نجوم للمرة الأولى في حياته المهنية وغير المهنية. لم يُخْفِ الزميل بهجته واندهاشه بالتجربة، لن أقول للوهلة الأولى بل للوهلات الأولى المتجددة مع كل إشراقة صباح. ولكن بتوالي الأيام لم يكن غريباً على الرجل ذي الأصول التقليدية أن يضجر من أصناف الطعام غربية الأصول في معظمها والمتراصة في حذلقة على المائدة المفتوحة، فأقسم أنه في نحو اليوم الرابع من الإقامة في الفندق الفاخر ترك أبهة البوفيه المفتوح وذهب إلى بقّال مجاور واشترى رغيفاً مع أحد أصناف الأجبان البلدية ثم عاد إلى الفندق وصعد إلى الغرفة فافترش بساطها وجلس ليأكل بأروع مزاج على زعمه. و”زعمه” هذه ضرورية، لأنني عندما قصصت القصة على بعض المقرّبين شكّك في رواية الرجل وقال إنها إمّا من باب درء عين يخشاها أو لإيهام الزملاء بأنه ليس محدَث فنادق خمس نجوم.

مهما يكن من أمر الرجل وقصته، فلا هو ولا القصة يخلوان من العبر القابلة للاقتناص والتأمل، وأهم تلك العبر أن ابن آدم ملول، بل شديد الملل، إضافة إلى كونه غريب الملل. والمقصود بغرابة مللنا نحن بني آدم أن سرعة وطريقة ضجرنا من عاداتنا (أو العادات المفروضة علينا) يصعب التنبؤ بهما في كثير من (أغلب؟) الأحيان. أما سرعة الملل فالأرجح أنها مرتبطة بسهولة توفر البديل، أو حتى بتوهّم توفر البديل، وربما بالاشتياق إلى البديل مع العلم بصعوبة إيجاده. وأما طريقة الملل فتتراوح من التأفف البسيط وصولاً إلى التهوّر بفعل على شاكلة ترك بوفيه خمس نجوم مفتوح على عشرين أكلة في باحة بالغة الفخامة وافتراش غرفة ضيقة لازدراد قطع من الجبن الأبيض “المعتّق” مع بعض كِسَر الخبز، بافتراض تمرير رواية زميلنا الكريم على أنها صحيحة جملةً وتفصيلاً من حيث الدوافع والغايات والتحقق الحرفي على أرض (غرفة) الواقع.

المثل العربي الدارج – على اختلاف نُسخ اللهجات العربية – يقول: “إذا أردت أن تحيّره خيّره”، والضمير للإنسان مطلقاً، ولكن كثرة الخيارات في الواقع لا تفضي إلى الحيرة فحسب وإنما ينتهي الحال بالمرء تحت وطأة (نعيم؟) الخيارات المتعددة إلى حالة من الملل تصبح بعدها العودة إلى الخيارات المحدودة التي كانت متاحة من قبل (أو حتى إلى خيار فحسب كان وحده المتاح) ضرباً من الانتصار، ولولا التريّث في الحكم والتعبير لقلت ضرباً من الانعتاق. هذا، وعقب الاستقرار في النعيم المتخيَّل للخيار الواحد – أو الخيارات الأقل عدداً – لا تلبث الحال أن تنقلب مائة وثمانين درجة بصورة مفاجئة (إذا كان لنا أن نزعم أننا نتفاجأ من عاداتنا مع الملل) في رحلة بحث جديدة عن خيارات متعددة يمكن معها أن يبدو الزعم بالرغبة في الانعتاق منطقياً.

الأرجح أنه لا شيء منطقياً مع الملل سوى الرغبة الجامحة في كسر العادة، وهو ما يصلح شرحاً لما يورثه الملل من المشاعر أكثر من كونه تفسيراً لمعنى الملل، فالملل من الطبائع الأصيلة فينا نحن بني آدم بما يصلح لأن يؤسَّس عليه الكثير من التفاسير لأفعالنا وردود أفعالنا أكثر مما يحتاج هو نفسه إلى تفسير.

نستسلم إلى الرتابة بقدر قلة حيلتنا في إيجاد البديل، أيّ بديل لأية عادة، وعليه فإن ما وصم ماضينا – نحن بني آدم – من انقياد لعاداتنا في الحياة وسائر ممارساتنا الرتيبة كان في ظلال غياب اختراع البدائل التي انفجرت حديثاً، أما قديماً فلم يكن ثم من مناص سوى الاستسلام لحضرة العادة، وربما الإيغال في التشبث بها وتكرارها في ما لا يخلو من ردة فعل قابلة للتفسير بالفكرة ونقيضها معاً (استطابةً تلقائية أو تلذذاً بالألم) سواءٌ لدى الأفراد مجتمعين أو بالنسبة إلى كل فرد على حدة.

الانعتاق المنشود من الملل يكمن إذن في كسر أية عادة دارجة تطلّعاً إلى غيرها أو نقيضها حتى إذا كان دارجاً من قبل، وحتى – بطبيعة حالنا كما رأينا – إذا كان ما سبق أقلّ تنوّعاً أو منعدم الخيارات تماماً.

ونحن نغذّ السير في رحلتنا مع الحياة نتطلع دوماً إلى قيد فنصنع عاداتنا، ثم نزعم التطلُّع إلى الانعتاق من القيد الذي صنعناه ونحن في الأعماق نرنو إلى قيد آخر حين نكسر العادة ونخترع بديلها. وهكذا نظل في حالة من الدوران ظاهرُها التطلع إلى الانعتاق وباطنها البحث عن قيد، ولا أجد تعريفاً لذلك القيد الذي يصبو إليه عقلُنا الباطن أفضلَ من كونه الاستسلام التام لسلطة الموضة (على اختلاف استجاباتنا بالإقرار أو الإنكار)، والموضة في ظاهرها بحث مستمر عن الجديد وفي جوهرها العميق أعظم تجسيد لفعل الدوران ممثَّلاً في الفرار من الملل بحركة/عادة عبر مسار يطول أو يقصر ليفضي إلى العودة لنقطة الانطلاق ذاتها.

Exit mobile version