عمرو منير دهب يكتب: لا فرق بين الإنسان والسيارة
nasdahab@gmail.com
لولا أننا ننظر إلى أحد أكثر الحيوانات مسالَمةً بقدر كبير من الاحتقار (على حساب غيره من الحيوانات المسالمة والمفترسة على السواء) لقلت في العنوان “لا فرق بين الإنسان والخروف”، ولي مع الخروف أكثر من وقفة في هذا الكتاب باستلهام المعاني غير المحدودة لعمليات الإجهاز المستمرة التي نرتكبها في حقه، وبالنظر في ظلال ذلك إلى مصير الإنسان بين الحياة والفناء.
إذا كانت شهية بني آدم لا تصبر حتى تدع خروفاً يهلك حتفَ أنفه إلّا ما ندر مع علّة – على سبيل المثال – تصيب خروفاً قبل أن يبلغ مبلغ الذبح، فإن ما يحيق بالخروف لا يعدو أن يكون مصير كل كائن حيّ وإن تميّزت طريقة بلوغ ذلك الكائن المسالم نهايتَه المحتومة بوحشية بالغة تجسّدها بطوننا وأعيننا التي لا تشبع أكثر مما تجسّدها عملية النحر نفسها.
نحن إذن أقلّ انزعاجاً لتشبيه أنفسنا بسيارة جديدة بديعة مقارنة بخروف مهما يكن فتيّاً بهيّ الطلّة، وإن كنّا في الوقت نفسه أشد انجذاباً إلى التشبّه بغير الخروف من الحيوانات المسالمة والمفترسة على السواء حين تتقلّب أوجه الشبه بين القوّة والصبر والذكاء والوفاء والجمال، وهلمّ جرّاً.
ما يبحث عنه الإنسان والحال كتلك هو إذن وجه شبه يرفع مقامه (الذي يزعم أنه في الأصل رفيع) درجاتٍ، سواء أكان وجه الشبه ذاك كامناً في حيوان أو جماد، ومما يُحمد للإنسان على كل حال أنه لا يزال صامداً إزاء الإسراف في تشبيه نفسه بالملاك.
بالعودة إلى عنوان هذا الحديث، ماذا في السيارة يحملنا على أن نزعم أنها مطابقة للإنسان؟ الجواب مباشرة هو التقدّم في العمر، فمراقبة أداء السيارة وهي جديدة ثم متابعة ذلك الأداء والسيارة “تشيخ” عملية لن تختلف كثيراً عن متابعة أداء الإنسان بين حالَيْ الحداثة والشيخوخة بتجاوز طول الفترة بين طرفي العمر في المَثَلين، ولا أزيد على ذلك استثناءً مهما تكن المفارقة حافلة بالاختلاف.
الاستعمال الجيّد يجعل السيارة تعيش أطول، والإنسان كذلك، فـ”التمزّق/البِلى بالاستعمال” – Wear and Tear – قانون ينطبق على الاثنين بدرجة واضحة، وإن يكن الاثنان من قبلُ خاضعين لقانون “العمر الافتراضي” الأعمّ في الحكم على طول حياة جنس بعينه من الكائنات سواءٌ أكانت حيةً أو جامدةً.
تدخل السيارة الخدمة وهي جديدة فلا تكلِّف صاحبها سوى الوقود وقليل من العناية الأشبه بالتدليل للمحافظة على “صحة جيدة”، ثم عندما يمتدّ بها العمر تستدعي بعض “الترقيع” الأقرب إلى ما يحتاجه الإنسان من عمليات جراحية غير حرجة. وعندما تبلغ السيارة من الكبر عتيّاً لن يكون ثمة مفرّ من استبدال قطعة جديدة بأخرى قديمة، وهي حالة باتت ممكنة مع الإنسان الذي كان فيما مضي يجلس عاجزاً أمام أعضائه يتهالك أيٌّ منها قبل هلاكه هو بسنوات طوال. ثم عندما تتطاول الحياة بالسيارة أكثر تتهاوى من تلقاء نفسها تماماً كما يحدث للإنسان بعد أن يسعد بعمر حافل مديد. ماذا تبقّى إذن للإنسان من البداية إلى النهاية وما بينهما على صعيد التقدّم في العمر كي يتيه به على السيارة بزعم التميّز والانفراد؟ لا شيء تقريباً إذا حصرنا المقارنة في نظرة عامة إلى ما بين الولادة والفناء.
من الكائنات الجامدة التي يصنعها الإنسان ما يفوق السيارة عمراً وإبهاراً في الأداء، ويفوق الإنسان نفسه عمراً حتى إن الأجيال تتوارثه، وعليه فإن ضآلة الإنسان يمكن الوقوف عليها فيما يصنعه بيديه وليس فقط فيما يجده حوله مما لا حول له في صنعه ولا قوّة، وليس هذا دليلاً على أن السحر قد ينقلب على الساحر وإنما إشارة بليغة إلى أن الساحر ربما يصنع بنفسه دليل تواضعه من حيث يظن أنه ينجز دليل عظمته.
بالعودة إلى الخروف، الذي هو عند الإنسان كما رأينا أحقر من سيارة مهما بلغت الأخيرة من القِدم والتهالك، يمكن مجدداً التقاط وجه الشبه بنظرة عامة لما بين الولادة والفناء مقارنة بين كائنين حيّين هذه المرّة وليس بين كائن حيّ وجماد من صنع يديه كما رأينا في المثال أعلاه، مع تحوير بسيط هو وضع نظرية “البِلى بالإهلاك” محل نظرية “البلى بالاستعمال”، فما يقع لخروف يُذبح في منتصف عمره الافتراضي يحدث مع الإنسان بما هو أبشع صوراً من تمرير سريع لمدية حادة على الرقبة، وهلاك الإنسان في منتصف عمره الافتراضي (كما أراده الخالق) حالة متفشية حتى إذا لم تكن الحالة الأكثر شيوعاً لفناء بني آدم على وجه العموم.
الإنسان – بالنظر إلى سيرته صعوداً من الولادة وهبوطاً إلى الفناء – ليس استثناءً، ولكنه يحب أن ينظر إلى نفسه على أنه كذلك متجاوزاً الوجه الأبرز للشبه بينه وبين سائر الكائنات. وكان وجه الشبه هذا لو أمعن فيه النظر حقيقاً بأن يدفعه إلى الكف عن الحلم بالخلود، ولكنه لا يزال يحلم.