عادل الباز يكتب: الحركة الإسلامية الاستراتيجية والتكتيك

فيما أرى

1
هل ستغيّر الحركة الإسلامية من استراتيجياتها وتكتيكاتها التي اعتمدتها بعد التغيير في ظل التطورات المستجدة في الساحة السياسية بعد أن تبينت ملامح التسوية؟.
قبل البدء يجدر القول ان هذه القراءة لاستراتجية الحركة الاسلامية جرت فى ضوء مواقفها العملية مابعد الثورة وبياناتها وتصريحات قادتها وبعض الحوارات التي اجريتها مع مجموعة من منسوبيها وعبر التحليل والتفكيك والتشبيك توصلت إلى نتائج اطرحها الآن للسادة القراء ليس مهما ان يكون التحليل صائبا المهم هو محاولة فهم أبعاد الاستراتجيات التي تتشكل منها السياسيات والمواقف وأسعد بأي إضافة تثري الحوار وتعمق التحليل وتكشف لي عن معلومات وزوايا غابت عني
لنبدأ قراءة استراتيجية الحركة الاسلامية ونمعن النظر في تكتيكاتها الثابت منها والمتحول…..
2
منذ اليوم الأول للتغيير اتخذت الحركة الاسلامية استراتيجية ذكية بعد قراءة فاحصة للساحة السياسية ومواقف الأطراف المختلفة والبيئة المحيطة والموقف الإقليمي والدولي، في ذلك الوقت كانت الموجة الثورية في أوجها وهي الموجة التي اتسمت بالعداء الشرس والكراهية للإسلاميين (أي كوز ندوسو دوس). وكانت الحركة الاسلامية في حالة من الصدمة والتشتت حيث باغتها التغيير بسرعته والأطراف الفاعلة فيه من كوادرها التي قادته أو انخرطت فيه وتولت تسليم زمام البلد لأعدائها. كان مصدر الصدمة الأكثر إدهاشاً هو الزخم الجماهيري الذي صاحب التغيير، الأمر الذي اجتذب رأياً عاماً عالمياً مؤيداً بشدة للثورة مدعوماً بمواقف إقليمية وعربية ليست داعمة فحسب بالتأييد عبر البيانات، بل منخرطة فيه بدعمها مالياً وسياسياً. كان موقف اللجنة الأمنية ومن ورائها الجيش حاسماً في صنع التغيير ونصرة الثورة.
3
فى ظل المعطيات أعلاه والتي سيطرت على الساحة آنذاك لم يكن أمام الحركة الإسلامية إلا التسليم بواقع التغيير مكرهة والإقرار بحقيقة سقوط نظام الانقاذ والنظر إلى الأمام.
عقدت الحركة أولى اجتماعاتها فجر 11 أبريل 2019، وبدأت في بناء استراتيجيتها بمشاركة من قادتها الذين توفروا في الساعات الأولى للتغيير. منذ تلك اللحظة تبنت الحركة استراتيجية تأسست على أربعة عناصر، الأول، أكد على عدم مصادمة التغيير وكان التقدير أن الإنقاذ سقطت ولكن يجب المحافظة على الدولة موحدة وخاصة في ظل هذه الأوضاع التي تتسم بالهشاشة والسيولة فاتخذ قرار الامتناع عن معارضة التغيير بأي شكل من الأشكال لا سلمياً ولا بأية وسيلة عنيفة. وتطبيقاً لهذه الاستراتيجية رفضت دعم انقلابي هاشم عبد المطلب وبكراوي، بل وذهبت إلى حد إعلان أنها ستكون معارضة مساندة لحكومة الثورة، والسبب في هذا الموقف لم يكن حباً فيها بل بناءً على تحليل صائب سمعته منذ اليوم الأول للثورة من قادتها يقول إن دولة الإنقاذ التي شيدتها عبر ثلاثين عاماً موجودة لم تتلاشى فليس من الحكمة هدم تلك الدولة حتى وإن انهار نظام الانقاذ فما سقط هو بقايا حطام الإنقاذ التي بدأت مسيرة التداعي الحر منذ أمد بعيد وسقوطها لم يكن مفاجئاً لأحد.
4
العنصر الثاني في الاستراتيجية هو الحفاظ على تماسك عضويتها ومنعها من التفلت أو اتخاذ أي مواقف فردية تحسب عليها وتضر باستراتيجية الحركة ثم الخروج بها من صدمة السقوط موحدة، لتبدأ التداوي والنهوض في مرحلة لاحقة ربما تأتي قريباً، ذلك أفضل من القذف بها وهي في حالتها الرثة تلك في أتون معارضة لشارع مهتاج ومنتشي بالتغيير ويعتلي ظهر موجة عداء عالية لكل ماهو إسلامي.
5
العنصر الثالث الذي اعتمدته هو إعادة بناء الحركة الإسلامية نفسها من الداخل فلقد تآكلت وضعفت وكانت الدولة قد فعلت فيها فعلها فقسمتها وصدعتها بالشقوق والصراعات المنعكسة من صراعات السلطة فتقلصت أدوارها وأصبحت كيانا مهترئاً ملحقاً بالدولة، مما أدى لتدهور كافة مؤسساتها وتعطلت الشورى داخلها ولم تعد فاعلة.
باختصار تخلخل البناء كله من القمة إلى القاعدة ووجد الذين تسنموا قيادة الحركة بعد التغيير حالة خراب شاملة تعتريها بدت معها الحاجة ملحة لإعادة بناء نفسها أولاً من الداخل، فكان تقديرها الابتعاد كلياً عن أتون الصراع السياسي آخذة الحيثيات السابقة كلها في الحساب السياسي، كان هذا أخطر وأهم تحدى للقيادة الجديدة (البريسترويكا)، النظم تسقط وتنهض ولكن عملية إعادة بناء الحركة الإسلامية والتي عمرها تجاوزال75 عاما خرجت خلالها أجيالٌ من كوادرها واستشهد لأجلها الآلاف هو التحدي الأكثر إلحاحاً لبناء مستقبلها.
6
العنصر الرابع في الاستراتيجية تأسس على قراءة للواقع المأزوم اقتصادياً وسياسياً وحالة الحصار المضروب على الدولة من الخارج، ففي ظل ذلك الواقع لن تستطيع الحركة إنجاز أي شيء لو قاومت التغيير وعادت للسلطة، فالأفضل أن تظل في حالة كمون وتترك الجمل بما حمل للقادمين الجدد وتصعد لمقاعد المتفرجين ترتب بيتها وتخطط للمستقبل. هذا الموقف لم يكن بريئاً تماماً فالحركة الإسلامية بعد ثلاثين عاماً في سدة الحكم تعلم جيداً عمق الأزمات التي تحيط بالدولة وحالة التشظي والتناقضات التي تكتنف الساحة السياسية وهي تعرف حجم وقدرات اللاعبين الصاعدين الجدد، تنظيمات وأفراد، من ملاعب الهواة والناشطين إلى ملعب بلد متشظٍ ومعقد وموبوء بالأزمات، وكان تقديرها أن بحر الأزمات والتناقضات في الساحة السياسية سيُدخل البلد في دوامة صراع حزبي/ جهوي أثني/ سيؤدي إلى الفشل في إدارة الدولة في ظل أوضاع اقتصادية خانقة أضف لذلك عدم توفر الخبرات الكافية لدى خصومها، وتوقعت هذا السيناريو وحذرت منه قبل سقوطها، وكانت قد سبقها فى ذلك جماعات الهبوط الناعم ومراكز الدراسات الدولية التي حذرت من انهيار مفاجئ لنظام الانقاذ. وللأسف فلقد صدقت كل التوقعات والتكهنات كما رأيتم في الفترة الانتقالية في كافة مراحلها.
7
كان لتعهدات القيادة الجديدة بأن لا تُضار الحركة الاسلامية ولا يتم التضييق عليها وأن يطلق سراح قادتها في غضون شهرين، أثر بالغ في انسحاب الحركة وكمونها بعيداً عن صراعات الساحة السياسية ولكن بعد أن استتب الأمر للقادة الجدد ونتيجة لضغط الشارع بدأت الأحداث تتصاعد، زج بالمزيد من قادتها في المعتقلات والمحاكمات وبدأت لجنة التفكيك في مصادرة دورها وأملاكها وشركاتها ثم مصادرة أموال منسوبيها وتشريد الآلاف من كوادرها في الخدمة المدنية والأجهزة الأمنية وغيرها، باختصار بدأت حرب شاملة تجاه الحركة الإسلامية وتحت بصر العسكريين وبموافقتهم وبانتهاك كامل لسيادة القضاء والنيابة وبصمت مطبق من منظمات حقوق الإنسان والبعثة الاممية!.
المدهش انه رغم ذلك لم تغير الحركة الإسلامية استراتيجيتها ولم تخرج للمواجهة وغضت الطرف عن خيانة عهود العسكر معها وظلت تدعم وحدة وتماسك الجيش في زمان كان يدعو فيه شركائه لتفكيكه.!
في هذه المرحلة نلاحظ أن الحركة الاسلامية عدلت فى الاستراتيجية قليلاً (من الكمون للحركة) وغيرت التكتيك.. كيف؟.
تغيير التكتيك بناءً على قراءة محدثة للواقع تقول إن ما يجري من استهداف بائن لها إنما محاولة لجرها لخوض معركة لم يحن أوانها وهي غير مستعدة لها الآن، وبناء عليه اتخذت الحركة من سلاح الصبر والنفس الطويل أداة مهمة في معركتها، ثم قررت مناهضة الإجراءات التعسفية بسلوك مسار قانوني وخوض المعركة مع الحرية والتغيير من زاوية القانون فقط، ومسار ثالث افترعته بالبدء في بناء تحالفات مع القوى المجتمعية والطرق الصوفية والإدارات الأهلية والأحزاب التي استبعدتها الحرية والتغيير، بدأ ذلك باعلان (التيار الاسلامى العريض)ثم الانخراط في مبادرة نداء السودان، وتنفتح الآن لتوسيع تحالفاتها. أضف إلى ذلك مسار ثالث هو تنشيط حركة الكيانات التي تعارض النظام بالأطراف ودفع ومساندة الاحتجاجات الإقليمية المطلبية لتفعل فعلها في تأزيم الأوضاع لفك الخناق عنها. كل ذلك بحسب الاستراتيجية يجري دون مواجهة مع القوى الحقيقية الحاكمة وهو الجيش وقيادته، بل اتخذت مواقف داعمة له بغرض إضعاف الحرية والتغيير. هنا نلاحظ ان الحركة تجنبت الرد على هجوم الرئيس البرهان عليها في خطاب حطاب تماسكا بالاستراتجية .
راهنت الحركة أيضاً على سقوط حكومة الثورة نظراً لضعف الكيانات المتناقضة التي شكلتها وبفعل الأزمات الاقتصادية التي تطبق برقبتها. لقد ظن الثوار أن بركات الغرب وملياراته ستتدفق على حكومتهم مباشرة بعد سقوط الإنقاذ كان ذلك وهماً حصدوا بموجبه الريح بل الأسوأ أن الغرب بدلاً من فتح خزائنه، مد يديه إلى جيب السودان المفلس ليغرف منه (335 مليون دولار أخذت دون وجه حق). الإسلاميون كانوا يعرفون أن وعود الغرب مجرد سراب يحسبه الظمآن ماء، ولذا توقعوا أن تغرق الحكومة الإنتقالية في بحر الأزمات سريعاً. وقد حدث ماتكهنوا به، فسقطت حكومة حمدوك الأولى والثانية تحت وطأة الصراعات والأزمة الاقتصادية ثم جاء ” تصحيح المسار ” في 25 أكتوبر بقيادة قائد الجيش والدولة نفسه الرئيس البرهان أيضاً ليضع حداً لإحدى الحكومات الفاشلة في تاريخ السودان وما أكثرها.!
بعد إنقلاب الرئيس البرهان على قحت في أكتوبر كانت كل تحليلات اليسار وجماعات الحرية والتغيير أن قائد الحركة الاسلامية السيد علي كرتى يقف وراءه، والحقيقة أن الحركة الاسلامية شجعته وهيأت له المناخ بتحركاتها السرية والعلنية ولكنها لمْ تخطط له ولا تملكه كما اتضح لاحقاً.
هذه التطورات في المسرح السياسي لم تدفع الحركة لتغير استراتيجيتها ولا تكتيكاتها ولكن التغيير في 25 أكتوبر فك الخناق عن الحركة الاسلامية وخاصة بعد تعطيل لجنة التفكيك، فتمكنت، عبر القضاء، من إعادة منسوبيها لجهاز الدولة وإطلاق سراح أغلب كوادرها والأهم أنها كسبت حرية حركتها السياسية فسارعت في الانخراط في مبادارة نداء السودان مع آخرين التقت معهم في أهدافها (هوية البلد / استقلالية الدولة / دعم الجيش / التوافق الوطني / واستقلالية القضاء والنيابة). هذا التطور سمح ا للحركة بأعادة تموضعها في قلب الساحة السياسية. اكتسب النداء في وقت وجيز اعترافا ومشروعية من أغلب الفاعلين السياسيين في الساحة وأصبح ضمن الكتل الرئيسية في معادلة السياسة ورقماً لا يمكن تجاوزه.
8
الآن تمر البلاد بمنعطف جديد بدأت فيه ملامح تسوية ثنائية تسيطر عليها قحت ويؤكد العسكر أنها لن تكون مغلقة وستنفتح على آخرين لاحقاً. في ظل هذا الواقع الجديد لا يعرف حتى الآن هل ستغير الحركة في استراتيجيتها، بمعنى هل ستظل بذات موقفها الداعم للعسكر ومواجهة خصومها العائدين للسلطة بالقانون، أم أن تعديلات ما ستطرأ على الاستراتيجية والتكتيك التي ستتبعهما الحركة في المرحلة المقبلة.
بقراءة خطاب الحركة الإسلامية الشهر الماضي بدا أنها تتجه لتثبت استراتيجيتها الداعمة للجيش والتخلي و دعم قيادته الحالية وان بادرتها بالهجوم دون مبرر، وفي ذات الوقت المحافظة على خطابها السلمي وبعيداً عن العنف والانقلابات والسعي لإفشال تسوية قحت/ العسكر/ الرباعية/ من خلال تكتيك يؤسس على أربع محاور، الأول توسيع جبهة تحالفاتها (نداء السودان) الذي تعمل من خلاله الآن ومجموعة التوافق الوطني التي تضم الحركات المسلحة والحزب الاتحادي جناح جعفر الصادق وجماعة عسكوري وأردول.
المحور الثاني هو تصعيد حركتها بالشارع وتعبئة الجماهير في اتجاه رفض التسوية الجارية باعتبار انها تسوية مفروضة من الخارج تهدد قيم المجتمع السوداني وتنسفها من الاساس، وهي تسوية وهبها من لا يملك إلى من لا يستحق..
المحور الثالث يعمل من خلال شد الأطراف وتأزيمها دون الدفع باتجاه بترها وهو الكرت الذي يمكن أن يهدد استقرار أية حكومة ومن شأنه أن ينسف أي تسوية وقد جرب هذا الكرت واستخدم بفعالية في ملعب الشرق والآن يمكن استخدامه شرقاً وغرباً.
المحور الرابع هو الإتجاه لاستثمار ذكي بدعم لجان المقاومة والجذريين والاستفادة من عدائهم لقوى التسوية التي تتزعمها قحت في تأزيم الأوضاع وإشعال الشارع المعارض بحيث لا تتيح لقوى الحرية والتغيير الاستفراد بها باعتبارها هي المعارض الوحيد لحكومة التسوية. ترافق هذه المحاور السعي لتنشيط علاقاتها الخارجية القديمة والاستثمار في تناقض سياسات مصر/ الإمارات في السودان بحيث تدفع بتطوير العلاقة مع مصر وقد تحصد دعهما.
الملمح الأهم والنقلة التي حدثت في خطاب الحركة هو رهانها على القضايا الوطنية وبناء عليه وثقت تحالفاتها مع القوى التي تنادى بالسيادة بعيدا عن التدخلات والوصايا الأجنبية. يشي هذا الخطاب بأن مرتكز الصراع في الفترة القادمة ليس بين علمانيين وإسلاميين إنما بين قوى تنادي بالسيادة الوطنية مهما كانت تصنيفها(ليبرالية/ يسارية/ شيوعية/ طائفية) في مقابل طرف آخر يعمل تحت وصاية ومظلة الأجنبي معتمدا عليه كرافعة وصول للسلطة. أهمية هذه النقلة انها ستسمح للحركة الاسلامية ان تعمل ضمن تحالف وطني عريض وملون فيصعب استهدافها منفردة وخاصة اذا افلحت في انتاج برنامج للعمل المشترك.
9
من الواضح أن استراتيجية الحركة الذكية فى مرحلة ما بعد التغيير قد نجحت في إعادة تموضع الحركة بقوة من جديد من الساحة السياسية في وقت وجيز وحافظت على كوادرها ببقائهم في الدولة والاحتفاظ بالدولة الموازية التي تأسست من زمان بعيد كما هي ولم يمسسها سوء والسبب ببساطة أن الناشطين الجدد في دهاليز الدولة لا يعرفون مكر الأحزاب العريقة وطرائق عملها ومخابئها السرية.
صحيح أن الحركة أصابها ضرر كبير في سمعتها أيام هياج التغيير وإن كانت السنتين الماضيتين قد غسلت كثيراً من التهم التي ألحقت بها من خلال القضاء.
في تقديرى انها كانت استراتيجية جيدة نقصتها تفعيل التكتيكات اللازمة في بداية التغيير.
الآن هل ستنجح الاستراتيجية الجديدة وما يتبعها من تكتيكات أم لا، هذا ش على ردود فعل الحكومة القادمة وخلفها العسكر تجاه التكتيكات التي ستتخذها الحركة الإسلامية وحلفائها في معارضتهم لحكومة التسوية القادمة.

Exit mobile version