التأهيل النفسي للإنسان قبل تعبيد الطرقات وترميم المدن

عبدالعزيز يعقوب
“سنرجع يوماً… نضمد فينا انكسار الحياة
ونرسم وجهاً جديداً لهذا الوطن.”
الاديبة روضة الحاج
(١)
يتفق المفكرون والعلماء على أن الإنسان هو العنصر الأساسي لتحقيق التنمية والنهضة في أي مجتمع. غير أن هذا الإنسان لن يستطيع المساهمة الفاعلة في بناء وطنه ما لم يتحرر من القيود النفسية التي تقيده. فقبل أن نبدأ بإعادة إعمار البنية التحتية، لا بد أن نبدأ من الإنسان ذاته، فنحرّره نفسياً من الصدمات والعواطف المضطربة الجريحة التي خلّفتها سنوات الحروب والصراعات، والتي أشعلت مشاعر غير عاقلة كالغضب، والخوف، والكراهية والريبة اضافة الي الإحباط والقلق.
وقد تطرق المفكر مالك بن نبي إلى هذا المعنى حين قال: “إن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارية، ولا يمكن لشعب أن يتقدم ما لم يُعالج مشكلته النفسية والاجتماعية أولاً.”
أما المفكر والسياسي السوداني د. منصور خالد فقد أشار إلى عمق الأزمة بقوله:
“أزمة السودان الكبرى ليست فقط سياسية أو اقتصادية، بل أزمة ضمير وجروح داخلية لم تُعالج بعد.”
واتفق اليسار واليمين السوداني على هذا المعنى، إذ قالت المرحومة فاطمة أحمد إبراهيم: “تحرير الإنسان من الخوف والتبعية يبدأ من تحريره نفسياً، لا منحه فقط شعارات الحرية.”
وهو ما أكده أيضاً الزعيم الإسلامي الراحل حسن الترابي بقوله: “لا معنى للتحرر السياسي إذا بقي الإنسان مكبّلاً في داخله، خائفاً، ممزقاً، عاجزاً عن أن يكون حراً في وجدانه.”
أما علماء النفس، فيؤكدون أن الصدمات، والحروب، ومشاهدة العنف تترك جروحاً نفسية عميقة، ولا يمكن الشفاء منها أو العودة إلى مسار الحياة الطبيعية من دون تدخل نفسي متخصص، خصوصاً بين الأطفال وكل فيات المجتمع الاخري بدراجات متفاوته.
وفي هذا السياق، يؤكد عالم النفس السويسري جان بياجيه المتخصص في النمو العقلي والنفسي للأطفال أن الطفولة هي المرحلة الحاسمة في تكوين الإدراك والعاطفة، وأن الحروب تعطل النمو العقلي والعاطفي الطبيعي للأطفال، مما يؤدي إلى اضطرابات نفسية وعقلية طويلة الأمد في شخصياتهم ومستقبلهم، وسينعكس ذلك علي المجتمع في صور مختلفة ضعف الإنتاج والاداء الأكاديمي والعملي و ازدياد الجريمة و تعاطي المخدرات والعنف.
(٢)
في ظل الأزمات التي مرّ بها السودان على مدار عقود — من الحروب والصراعات الاجتماعية إلى الممارسات السياسية غير الراشدة — أصبح من الضروري إعادة التفكير في كيفية بناء الوطن. فالإعمار لا يقتصر على تعبيد الطرق وبناء المرافق، بل يبدأ أولاً من بناء وإعداد الإنسان.
ومن هذا المنطلق، تأتي هذه المبادرة كدعوة لوضع إعادة التأهيل النفسي في قلب عملية الإعمار، لتجاوز الصدمات النفسية العميقة، لا سيما في صفوف الأطفال، والشباب، والنساء، حتى تعود الروح إلى المجتمع، ويعود أفراده للإنتاج والعطاء والمشاركة الفاعلة في تنمية وطنهم وتحقيق نهضته.
إن نجاح هذه المبادرة رهين بتنسيق الجهود بين جميع القوى الفاعلة: من القيادات السياسية إلى رجال الدين، ومن منظمات المجتمع المدني إلى المثقفين، مروراً بالقوات النظامية. ينبغي أن تتضافر هذه الجهود لصياغة مشروع وطني يُعلي من قيمة الإنسان ويضعه في صدارة أولويات البناء.
هذه دعوة مفتوحة للجميع للمساهمة في تنسيق الأدوار والطاقات، لأن إعادة التأهيل النفسي للمجتمع السوداني تمثل الشرط الأول والأساسي لتجاوز آثار الماضي، والانطلاق نحو إعمار شامل بروح متجددة ووطن يستحق الحياة.