زرزور وبيرييلو
المعز إبراهيم الهادي
المحاضر – سابقاً – في كلية القانون بجامعة الخرطوم
□ يذكّرني توم بيرييلو المبعوث الأميركي للسودان بقصة زرزور، وهي من أحاجي النصارى القديمة التي حكاها شكسبير..
□ زرزور طائر يكثر تواجده في الجزر البريطانية، يحوم في سماها، يخرج منها ويدخل كلما سنحت له الفرصة او رحبت به الطبيعة.
□ لكن مصيبته هي أنه وفي أثناء حركة طيرانه ودورانه وذهابه وعودته يورط نفسه في مآزق لا يقدر عليها، فتصدر منه أصواتاً مكبوتة تكشف حالُه ثم لهفته لإيجاد مخرج يفكّه مما أوقع نفسه فيه.
□ وزرزور هو كذلك كُنية لرجل سكن جبال الأطلس بالمغرب وحمل نفس صفات الطائر المذكور.
□ حكى لي عنه ذات ليلة صديقي من هناك طارق المؤيد.
□ كان زرزور رجلاً قصير القامة مَحنِي الظهر ذو لحية، يلبس الجُلباب والقُب ويتوكأ على عصا، دائم التوجس كثير الهمهمة والنمنمة، وكان فارغ المحتوى يستمد جدواه وجرأته وكثرة كلامه وكذبه وبعض وقاحته من تقّربه بمن يحترمهم سكان الجبل ونواحيه والتصاقه بهم واستماعه لقصصهم وحكاياتهم.
□ لكنه بعد أن يغادر مجالسهم يعيد إنتاج ما سمعه من أخبارهم ونوادرهم فيزيد فيها او ينقص منها او يبدّلها حسب من يقابلهم ممن هم على شاكلته او ممن يمر بهم على قارعة الطريق او في أثناء صعوده إلى الجبل او هبوطه منه.
□ البعض ممن عاشوا في سفح الجبل كانوا يعظمونه لظنهم أن الرجل موسوعي الرواية وصاحب شأن في الحياة وله قضية، فيظهرون اهتمامهم به وتهيّبهم منه، اما القاطنين في أعلى الجبل فكانوا لا يكترثون به.
□ حينما توسط توم بيريللو شلة المحتالين الذين كان يجالسهم في سويسرا قبل أيام قال كلاماً سرَاباً لا يساوي قيمة الوقت الذي جلست لأستمع إليه فيه.
□ لكن الذي استرعاني هو ما أكّده الرجل وكرره، ثم أعاده وردده وهو أن وزيره بلينكن ورئيسه بايدن – المنتهية صلاحيتهما – يقفان بجانبه وعن يمينه وشماله في محنته، ويؤازرنه حتى لو أجرى المفاوضات مع (الرئيس) البرهان بهاتفه الجوال، او حتى لو نقلها لمصر السيسي، او حتى لو باع النائمين في فنادق سويسرا بإقامة ليلة فيها او أكمل لهم عِدة لياليهم العشر كاملة.
□ وسمّى هذه الفوضى “مفاوضات الهجين”!!
□ في أثناء مباحثات العشرة أيام السرّية – التي لم تكن في الواقع منعقدة – ذهب مبعوث العناية الأمريكية لأربعة مشاوير مهمة كشفت ورطته وقلة حيلته.
□ المشوار الأول كان لغرفة العمليات التي تدير خطة إبتلاع السودان وقال للجالسين فيها والواقفين:
○ ما العمل الآن؟
○ ماذا نفعل؟
○ ما هو المخرج؟ الجيش لم يأتِ وما أظنه آتٍ ولو انتظرناه لعشرة أشهر كاملة!!
□ المشوار الثاني كان للقاء مذيع هاوٍ غير متمرّس حاول أن يبث من خلاله – لمن يعنِيهم الأمر – رسالة مضطربة وغير واضحة.
□ المشوار الثالث كان خارج البلد المستضيف حيث ترك الرجل المفاوضين المفترضين ببجاماتهم في فنادقهم وطار لمصر ليسأل رئيسها ووزيره عن المخرج من المأزق؟!
□ المشوار الرابع كان لمطعم في القاهرة لمقابلة مواطن سوداني يرتدي قميصاً كتب عليه “جايطة”.. وعنده نطق المبعوث بيريللو بالحقيقة – وصحن الفول على الطاولة أمامه ونظارته السوداء تغطي القَتَرة التي على وجهه – فقال “جايطة شديد”..
فعلاً جايطة شديد!!!
لقد صدق الرجل..
□ إسمه توماس ستيوارت بيريللو من مواليد عام 1974، عمره 49 عاماً.
تم تعيينه مبعوثاً خاصاً للسودان في فبراير 2024..
قبلها عمل في الوظائف الآتية..
2002 عمل مستشاراً لمدعي محكمة سيراليون الخاصة – لمدة عام واحد..
2003 عمل مستشاراً للمركز الدولي للعدالة الإنتقالية بكوسوفو – لمدة عام واحد..
2005 عمل في ملف دارفور لعدة أشهر.. كان عمره 30 عاماً..
2007 عمل خبيراً أمنياً بافغانستان..
2009 حتى2011 وجد نفسه بالصدفة عضواً في مجلس النواب الأميركي عن الحزب الديمقراطي.. لكنه لم يعد إليه مرة ثانية..
2014 عمل بمجلة إسمها الديبلوماسية والتنمية – لعام واحد..
2015 عمل مبعوثاً للولايات المتحدة في منطقة البحيرات – لمدة عام واحد..
السنوات 2004 – 2006 – 2008 – 2012 – 2013 – 2016 – 2017
كان ينفض الغبار عن مكتب محاماة يعمل به ، وكلما وجد نفسه وحيداً فيه يبدأ مشوار البحث من جديد عن عمل آخر ولو لعام واحد في أي بلد من بلاد الدنيا..
أطول فترة عمل له كانت بمنظمة إسمها “مؤسسات المجتمع المفتوح” من عام 2018 إلى 2023..
هذه المنظمة يمتلكها الملياردير الأميركي اليهودي جورج سورس وهو من أصل هنغاري..
هناك عدة ملاحظات على هذه المنظمة من عدة دول، بعضها معلن وبعضها غير معلن..
في عام 2015 أعلنت الحكومة الروسية أن نشاط هذه المنظمة يهدد النظام الدستوري للبلاد وأمنها واستقرارها فأغلقت مكاتبها وطردت موظفيها..
في عام 2017 أصدرت الحكومة الباكستانية قراراً يمنع كافة نشاطات المنظمة وطردت موظفيها..
وفي عام 2018 قررت الحكومة التركية إغلاق مكاتب المنظمة ومنع جميع نشاطاتها وطردت العاملين فيها..
وفي عام 2018 كذلك قررت حكومة هنغاريا – التي يحمل صاحب المنظمة جنسيتها – إغلاق جميع مكاتبها في البلاد ومنع نشاطاتها وملاحقتها قضائياً..
كما أثار عمل المنظمة في دول جنوب أفريقيا وغربها ووسطها إنتقادات كثيرة من جهات حكومية وغير حكومية..
ففي عام 2008 احتجت الحكومة الأوغندية على إستهداف المنظمة للنساء بشكل خاص بغرض توعيتهن بحريتهن في التصرف بأجسادهن لأغراض الفاحشة ومساعدتهن لفتح بيوت الرذيلة وتشجيع الزنا بالتراضي للمتزوجات منهن والعلاقات المثلية!!
في عام 2023 وبعد تخلي جورج سورس عن رئاسة المنظمة وتعيين إبنه الكساندر رئيساً لها، قرر الإبن إقالة توم بيريللو من وظيفته.. فمنذ نوفمبر من العام الماضي بدأ الرجل يبحث عن وظيفة أخرى جديدة ولو لأشهر معدودة..
وجد توم بيريللو ضآلته في حرب السودان فهو (خبير) في مآسي الشعوب (التائهة).. فبعث الوسطاء لرئيسه بايدن ووزيره بلينكن مستخدماً “فلسفته الهجين” فعثروا له على وظيفة (إخماد) حرب في السودان (وتوصيل) شاحنات إغاثة.. من هنا بدأت قصته الحقيقية مع السودان وفصولها متوالية..
لكن للحقيقية وفي المُجمل فليس هناك من عتب على توم بيريللو في بحثه عن عمل يسد به رمقه ويقابل به التزاماته.. لكن العيب الذي يغطيه من أعلى رأسه إلى أسفل قدميه هو أنه يتحرك بشكل خاطئ وفي إتجاه خاطئ ويُثني على مجرمي الحرب الجنجويد والدول التي ترعاهم والأجهزة التي تمولهم وهو يدرك ذلك!!..
امّا العيب الأكبر فيقع علينا نحن الذين وصلنا للحضيض الذي يسمح لرئيس مُخرّف أن يقذفنا برجل تائه (ليرتب) لنا حال بلدنا..
قال محمد إقبال..
راهب الماضين أفلاط الحكيم..
من فريق الضأن في الدهر القديم..
طرفُه في ظلمة المعقول ضل..
في حزون الكون قد أعيا وكل..
حكمه في فكرنا جد عظيم..
هو شاة في لباس الآدمي..
وهو في الصوفي ذو بأس قوي..
عالم الأشياء سماه الهراء..
وعلت أفكاره فوق السماء..
فعله تحليل أجزاء الحياة..
وجفاف النبع من ماء الحياة.