100 عام من مهاتير محمد صاحب نهضة ماليزيا الذي لم يفلت من قسوة التاريخ (2)

محمود العدم
وصل الجدل حول شخصيته إلى حد التشكيك في كونه مسلما ومن أصول ملايوية، أي أنه لم يكن ماليزيّا أصليا، رغم أنه أكد مرارا أنه “يفتخر بكونه ملايويا”، وقد قيل إن أباه محمد بن إسكندر كان هندوسيا واعتنق الإسلام ليتمكن من الزواج من وان تمبوان أم مهاتير، وكان هذا الموضوع يثير نقاشا حاميا مع كل درجة يصعدها في سلم القيادة.
كان يمكن للجدل حول الرجل أن يكون مختصرا لو أن مهاتير محمد ترك مسرح السياسة حين غادر منصبه في رئاسة الوزراء أول مرة عام 2003، فقد كان عمره 78 عاما، كان بإمكانه أن يركن إلى حياة هادئة يستمتع بما قدم لبلاده، ويراقب المشهد من بعيد، كما يقول كثيرون.
لكن الطبيعة البشرية أبت إلا أن تشده مرة أخرى إلى حيث الصخب، فعاد والأضواء ساطعة مسلطة على كل حركة له وسكنة، فظهر بعض ما خفي، وسرى لحن فيه بعض نشاز أفسد شيئا من سيمفونية مبدعة عزفت لعشرات السنين، وكتب نهاية سياسية باهتة لتاريخ صاخب ساطع.
ومع كل هذا الجدل، لا يمكننا إلا القول إن سفينة الرجل وافقتها الرياح، ليُصنع على عين القدر في لحظة فارقة من تاريخ بلاده. ولا ينكر هو ذلك، فقد تحدث طويلا في كتبه عن كيف خدمته الأقدار وصعدت به إلى سدة الحكم، رغم أنه لم ينتم إلى نخبة الملايو، ولم يكن من أبناء سلاطين الولايات، وكان أبوه مدرسا يتقاضى راتبا تقاعديا قدره نحو دولارين.
نحن أمام شخصية متمردة ثائرة بامتياز، رجل يصف نفسه بأنه “صانع مشاكل”، تفرد واستقل وكان بلا سند، ولكنه واصل حتى وصل، وقاد السفينة كربان حاذق وسط أمواج بحر متلاطم.
قصف بيرل هاربر
في رحلته الطويلة وتجربته المريرة التي خاضها قبل تسلمه منصبه، وبشكل أكيد بعد ذلك، وضع مهاتير لنفسه قاعدة في كيفية تعامله مع صراعاته السياسية، تقوم على تقليل أعداد الخصوم.
يقول مهاتير معلقا على الهجوم الياباني على بيرل هاربر الذي عايشه خلال الحرب العالمية الثانية: “تعلمت من الهجوم الياباني المتهور درسا مصيريا نفعني كثيرا في السنوات اللاحقة عندما دخلت معترك السياسة، إياك أن تضيف إلى معسكر خصومك مزيدا من الأعداء، وإذا وجبت عليك مواجهة عدو آخر، فلا تفعل حتى تفرغ من الأول”.
كانت اللحظة التي تحقق له فيها الحلم يوم 16 يوليو 1981 حين وقف أمام الملك ليؤدي اليمين بوصفه رابع رئيس للوزراء في ماليزيا، ولينتقل الطبيب “من علاج أمراض الماليزيين إلى علاج أمراض بلدهم” كما يقول، ولتبدأ رحلة لم تنته بعد.
وخلال سنوات، انتقل أبناء وبنات المزارعين وصيادي السمك الذين عاشوا على الكفاف إلى العمل على إنتاج أدق التقنيات من صنع أيديهم.
في الكتابة عن مهاتير محمد، من الراجح أن يظن الباحث أن خيوط القصة قد اكتملت في حياة الرجل الذي سيكمل في يوليو القادم عامه المئة، لكن مهاتير محمد ليس رجلًا عاديًّا، فها هي صورته على غلاف كتاب جديد من تأليفه، يحمل عنوانا مثيرا.
رجل على مشارف المئة يؤلف كتابا بعنوان “التقاط الأمل: الكفاح مستمر من أجل ماليزيا جديدة”. تقول دار النشر عن الكتاب إن قصته بدأت من تقاعد مهاتير، وهو ما منحه أخيرا بعض الوقت لمتابعة قضايا قريبة من قلبه مثل “محنة الشعب الفلسطيني، وتجريم الحرب”، لكن مشاكل ماليزيا سحبته سريعا إلى دوامة المواطن.
معضلة الملايو
قبل توليه السلطة بنحو 11 عاما، وتحديدًا عام 1970، أصدر مهاتير محمد كتابا بعنوان “معضلة الملايو” انتقد فيه بشدة شعب الملايو، واتهمهم بالكسل والرضا بأن تظل بلادهم دولة زراعية متخلّفة، رغم توفر الإمكانات للتقدم والازدهار.
ويقول في بعض لقاءاته “بعد 23 عاما من وجودي في رئاسة الوزراء، أدركت أن المشكلات الأساسية التي يعاني منها الملايو -والتي أوضحتها في كتابي معضلة الملايو- لا تزال على حالها، وبعضها ليست أقرب إلى الحل الآن منها حين بدأت الحديث عنها”.
حين تسلم مهاتير رئاسة الوزراء، كان عليه أن يواجه ملفات معضلة، فبلاده تئن تحت وطأة أوضاع اقتصادية متردية، يعيش فيها نحو 70% من السكان تحت خط الفقر، وتضطرب في موج متلاطم من خلافات العرق واللغة والثقافة والدين، وتعصف بها خلافات الحكم والسياسة.
وكأن الرياح وافت أشرعة الربان فانطلق كالسهم ليحقق أهدافه، حيث كان الشعار “إن تعثرتْ خطوةٌ لحقت بها أخرى تُقيلها”.
أدرك مهاتير أن شخصية رئيس الوزراء هي الأقوى في النظام السياسي الماليزي، وقد سعى لتثبيت ذلك، من خلال فرض حضوره في شتى القرارات والمتابعات، حتى في أدق الأمور، من أجل أن يكون ذلك منهج عمل لباقي المسؤولين.
ويشير في مذكراته إلى أنه تعلم ذلك من اليابانيين الذين اهتموا بأدق التفاصيل من أجل الخروج بأفضل النتائج، ويؤكد أن ذلك سيكون مؤثرا بشكل سلبي في سرعة سير العمل، لكن السرعة تأتي مع مزيد من الإتقان.
كما يذكر كيف أنه تدخل في أمور تفصيلية ربما تبدو غير مهمة، لكنه -وهو الأعرف بالشخصية الملايوية- كان يريد أن يمنحهم دروسا في حب المبادرة وتحمل المسؤولية، وقد تدخل مرة في إصلاح أعمدة الإنارة بالعاصمة، بعد أن وجدها مهملة لا تؤدي المأمول منها، كما تدخل في ترتيب بسطات الطعام، بعد أن وجدها تشوه منظر شوارع المدينة.
في المقابل، وحتى لا تطل الثقافة الإقطاعية برأسها، فقد أظهر عدم رضاه عن التملق لرئيس الحكومة وعدم معارضته في قراراته، وحظر إطلاق اسمه على أي من الشوارع والمنشآت الحكومية.
كما كان لقيمتي التسامح والاحترام أهميتهما الخاصة عند مهاتير، ويقول إنه عندما أصبح في المسؤولية لم ينقل أحدا من الموظفين لسوء عمله -كما هو متبع بعالم السياسة- وإنما حملهم على فعل ما يريد من خلال كسب ولائهم.
ويتابع في هذه النقطة قائلا إنه لا مفر من الأخطاء، لذا فإن تغيير الفريق ليس ضمانة بأن الموظفين الجدد سيكونون أفضل، وليس ضمانة لعدم الوقوع في الخطأ مرة أخرى.
نقلا عن “الجزيرة نت”