فيما أرى
عادل الباز
الـ“أولد بيلي”، هي المحكمة التي شهدت محاكمات مصطفى سعيد، لاتهامه بقتل جين مورس، وآن همند ومسز روبنسون. لقد اعترف مصطفى سعيد بكل أفعاله، ولكن القُضاة تعاطفوا معه، فقرَّروا سجنه سبع سنوات فقط. تذكرتُ كُلَّ شيء في المحكمة، تذكرتُ كل شيء وأنا أتأمل مبنًى عتيقاً لا يزال صامداً كأنَّ بناءه اكتمل بالأمس.
في جامعة لندن، حيث درس مصطفى سعيد الاقتصاد، كنتُ يومياً أسرح وأنا في المكتبة وقاعات الدرس مع أطياف مصطفى سعيد، لابُدَّ أنَّ مصطفى سعيد كان طالباً وأستاذاً في إحدى هذه القاعات، لابُدَّ أنَّ مصطفى سعيد قد اصطاد آن همند على ضفاف هذه الكافتيريا. أين وجد مصطفى سعيد وقتاً لهذا العبث الذي أهدر فيه طاقاته العبقرية؟! يكاد الزمن الذي نعمل فيه من الساعة التاسعة صباحاً وحتى الخامسة مساءً، لا يكفي حتى لقراءة الصفحات الأولى من الصحف.
في المحاضرة الأولى التي قدَّمتها في جامعة لندن، واجهتُ جملة من الأكاذيب حول ما يجري في دارفور، قالوا إنَّ الحكومة العربيَّة الإسلاميَّة في الشمال أبادت الأفارقة باعتبار أنَّ الصراع في دارفور بين عرب وأفارقة. فسألتُ أحد المتداخلين في الندوة عن المناطق التي يسكنها الأفارقة في السُّودان، فقال في جنوب وغرب السُّودان، فقلتُ: إذا قرَّرت الحكومة العربيَّة في الشمال إبادة الأفارقة في السُّودان، فلماذا توقِّع اتفاقاً مع الأفارقة المسيحيين في الجنوب، وتذهب لتبيد الأفارقة المسلمين في الغرب؟! أليست هذه مفارقة؟! ثمَّ إنَّ بالخرطوم ثلاثة ملايين إفريقي، فإذا كان هناك قرارٌ بإبادة الأفارقة، فلماذا تذهب الحكومة إلى أقصى الغرب وبين ظهرانيها ثلاثة ملايين؟! وحين غادرتُ ردهات الجامعة، تذكرتُ الأكاذيب التي كان مصطفى سعيد يُؤلفها حول الشرق، ويبثها بين ضحاياه، مُوقناً بأنَّ من يتحدَّث إليهم جهلة بأوضاع وأقدار العالم. يبدو أنَّ مسيرة جهل الغرب، حتى طلبة العلم بأوضاع الشرق لا تزال متصلة.
لم يكن في مخططي ولا حتى في أحلامي أن أقف يوماً محاضراً في جامعة أكسفورد. ولكن للزمن تصاريف وأقدار لا يدرك المرء كنهها. بعد يوم واحد من محاضرة جامعة لندن، أخبرتني مديرة البرنامج بأنَّ هناك رغبةً من مجموعة من طلبة وأساتذة جامعة أكسفورد للاستماع لوجهة نظري حول الطريقة التي تعامل بها الإعلام في السُّودان مع أزمة دارفور. رفضتُ الطلب أوَّل مرَّة، مُعتذراً بأنَّ لغتي الإنجليزيَّة “المكسَّرة” لا تمكنني من مخاطبة طلبة وأساتذة جامعة أكسفورد، ورحم الله امْرِءٍ عَرِفَ قدر نفسه. أمام إلحاح الإدارة وإصرار زملائي في الكورس، وبلا شك لحاجة في نفسي، وافقتُ على تلبية الدعوة، بشرط أن يكون معي آخرون للدعم والمساندة.
في الطريق إلى أكسفورد، أطلَّ مصطفى سعيد، تذكرتُ تلك السَّفسَطة التي كان يهذي بها لطلبته في أكسفورد حول المدارس الاقتصاديَّة. لقد قرَّر مصطفى سعيد مع سبق الإصرار والترصُّد، إفساد أيَّة لحظة يمكن أن أستمتعُ بها في لندن، وذلك ليس غريباً عليه، فقد أفسد من قبل حيوات أناس كُثر، لعنةُ الله عليه.
كان أوَّل ضحاياه راوي الرِّواية نفسه، لقد جعل من الرَّاوي مجرد آلة تسجيل لحياته المُضطربة، وأصبح الرَّاوي فريسة لخيالات وأوهام مصطفى سعيد، مثلي تماماً، فلقد أصبحتُ أسيراً لتاريخ وحياة مصطفى سعيد في لندن.
في أكسفورد، قبل بداية المحاضرة، دعاني الزعيم الجنوبي، السيد بونا ملوال، إلى غداءٍ وجولة في أكسفورد. بونا سودانيٌ بمعنى هذه الكلمة، ضحكنا وتآنسنا كأنَّ بيننا صداقة عشرات السنوات، كان سعيداً بوجودي في أكسفورد، أخذني إلى مكتبه وأصرَّ على حضور المحاضرة ودعا آخرين فجاءوا. أثناء تجوالنا في شوارع المدينة الجميلة، عمل بونا كدليل سياحي لي، لقد تعرَّفتُ على المدينة بشكلٍ أفضل، قال لي سيد بونا: «في هذه الكليَّة تخرَّجت تاتشر، وفي هذه درس رئيس وزراء بريطانيا السيد توني بلير»… وهكذا ظلَّ يُعرِّفني بأسماء الأماكن والناس. بلا مناسبة، وجدتُ نفسي أسأل: وأين كان يُلقي مصطفى سعيد محاضراته؟! لحُسن الحظ، لم يسمعني بونا جيداً، وتخارجتُ من السؤال بسرعة.
“مصطفى سعيد.. لعنةُ اللهِ عليك”! (4)
يبدو أنَّ موضوع مطاردة مصطفى سعيد لي قد استهوى بعض أصدقائي، لقد انبسطوا من إفساده لأيامي في لندن، وطربوا لذلك أيِّما طرب، اللهُمَّ قِني شرَّ حسادة أصدقائي، أمّا أعدائي فأنا كفيلٌ بهم.
أيامي في لندن باتت معدودة، سألتُ الله أن تمرَّ بسلامٍ، فلستُ بحاجة لأي مفاجأة. في آخر ثلاثة أيام، استفسرتني إدارة الجامعة إذا ما كُنتُ أرغبُ في قضاء بعض الأيام في لندن بعد انتهاء الكورس حتى يقوموا باللازم، شكرتُهُم وقلتُ لهُم: بعد نهاية الكورس بساعة سأكون في مطار هيثرو عائداً لوطني. أغلب الذين كانوا معنا في الكورس مدَّدوا فترة إقامتهم لثلاثة أو أربعة أسابيع، ولكني كنتُ مُسرعاً إلى حلب ومُنغصات العيش كلها في حلب.
اتصل بي “المحبوب” باكراً قائلاً إنَّ الـ‘بي بي سي’، تُحضِّر ليوم عن السُّودان، وإنَّ عُمر الطيب يرغبُ في استضافتي في البرنامج الذي يُعِدَّه لذلك اليوم. المهم، حدَّدنا مواعيد للقاء مع عمر في الـ‘بي بي سي’.. في الاستقبال، وجدتُ الأستاذ حاتم السر، الناطق الرسمي باسم التجمُّع الديمقراطي، قلتُ له: يا حاتم ياخي، إنت مشعللها اليومين دي مالك، هي البلد ناقصة نيران؟! قال: مشعللها أنا ولا جماعتكم؟! اتفقنا على لقاءٍ، للأسف لم يتم.
أخذني عُمر لداخل الاستديوهات وقُمتُ بتسجيل المادة المطلوبة، وبعدها كان عليَّ أن أغادر مبنى الإذاعة إلى مباني جامعة لندن التي تبعُد مائة متر فقط عن مباني الـ‘بي بي سي’. ولكن الأخ عُمر بوُدِّه المعهود رغم زحمة عمله، استبقاني معه. فجرى الحديث عن جامعة لندن، سألته عن السُّودانيين الذين درسوا فيها، فقال لي إنه لا يذكر أحداً غير الطيِّب صالح. قلتُ: يا ساتر؟! فقال لي: مالك؟! قلتُ: لا شيء، لقد تذكرتُ أمراً وعليَّ أن أغادر، وبالفعل نهضتُ من الكرسي بسرعة، وتقدَّم معي عُمر مُودِّعاً لخارج المبنى، وفي الدهليز قال لي عُمر: بمناسبة الطيِّب صالح، يُقالُ إنَّ الطيِّب كتب “موسم الهجرة إلى الشمال” في هذه الغرفة..!! لم تكُ لي أدنى رغبة في الالتفات ناحية الغرفة التي أشار إليها، بل أسرعتُ في السير وكدتُ أعدو، ولكنني لم أكُن أستطيع ذلك.. إذن هذا المكان شهد أيضاً مولد هذا اللعين. كيف تسنَّى لهذه الشخصيَّة أن تولد في أكثر من مكان في آنٍ واحدٍ؟! مصطفى سعيد وُلد في ضواحي الخرطوم، على حسب إفادات الرَّاوي، وإن كان المُؤلف يُشكِّك في ذلك.. مصطفى سعيد وُلد في الرِّواية، بذلك المطعم التركي كما علمتُ، وها هو الآن يُقال لي إنه قد وُلد في مباني الـ‘بي بي سي’، حيث كان يعمل الطيِّب صالح في الستينيات.
مصطفى سعيد.. لماذا تهبط عليَّ في مثل هذه الأوقات؟!