nasdahab@gmail.com
أن يضع كاتبٌ مصنّفاً سبقه إلى مثله الأقدمون والمحدثون مهمة بالغة الصعوبة، ومكمن التحدّي العظيم في مهمة كتلك هو مهارة تلافي أي قدر محتمل من التكرار وبراعة إبراز الجديد الذي يطلع به المصنف بوضوح لا يحتمل أي قدر من اللبس. الدكتور محمد عبد القادر سبيل أقبل على مهمة من ذلك القبيل فأنجزها في ثقة وأصالة عبر مصنّفه القيّم “مرايا الشعر: في السجايا ومكارم الأخلاق” الذي رأى النور هذا العام عن دائرة الثقافة بإمارة الشارقة.
من المهم أن يؤكد المؤلف في مقدمته أن الكتاب ينأى عن تقليد المصنفات المماثلة من قبيل الأصمعيات والمفضليات والحماسات، وحتى ما كتبه حديثاً أمثال العلّامة الدكتور عبد الله الطيب، وأن يشير إلى أن الكتاب أساساً “يريد القول بأن الشعر العربي هو صاحب اليد العليا في صناعة الشخصية العربية” ، ومن الجميل أن يضيء المؤلف بعدها الطريق أمام القاريء ليستبين الأخيرُ المنهجَ الذي توخّاه المؤلف ليطلع بمختارات لا تشبه ما سبقها على هذا الصعيد. غير أن الأهم والأجمل أن المؤلف ينجز بالفعل ما وعد به من حيث إصابة الغرض من المختارات الشعرية والالتزام بالمنهج الذي قطعه على نفسه خلال الفصول/الصحائف التالية من الكتاب، وهي حوالي أربعين صحيفة تناولت ما جادت به قرائح الشعراء العرب على اختلاف مِلَلهم وعقائدهم الفكرية منذ الجاهلية وحتى ستينيات القرن المنصرم.
ليس يسيراً أن يكتب مؤلف عن الندى والإصلاح بين الناس وطلب الكمال والمروءة والإباء والتعفف والحياء والنخوة والإيثار والقناعة وأعمال البر والإحسان – على سبيل المثال – فينجو بقارئه من شراك الملل، لكن محمد عبد القادرسبيل يفعل ذلك مع قارئ ينشد انتقاءً محكماً لأجود ما قالته العرب شعراً في المكارم فشكّل كيانها الأخلاقي على مر الزمان.
ربما لم يكن ذلك بالضرورة بعض ما أراده المؤلف مباشرة من الكتاب، لكن “مرايا الشعر” مما يؤكد أن “الشعر ديوان العرب” ليست كلمة ملقاة على عواهنها وإنما هي عبارة بليغة تختصر أمراً واقعاً بصرف البصر عن موقف القارئ تجاه الشعر تحديداً أو حيال الأنواع الأدبية المختلفة. بل إن المصنّف الضخم لا يعكس فحسب مكارم الأخلاق العربية كما تجلّت في مرايا الشعر العربي وإنما يذهب على نحو ما سلفت الإشارة إلى تأكيد أن أخلاق العرب قد تشكّلت في أتون شعرهم الذي لم يكن والحال كتلك ترفاً يُتّخذ للتسلية بل بمثابة المدرسة التي أرست معالم الشخصية العربية وحافظت على ملامحها الوجدانية بثبات على تقلّب أحوال الزمان.
إنحسار سائر الأنواع الأدبية بدرجة أو أخرى على امتداد تاريخ العرب الأدبي – منذ نشأته وإلى وقت قريب نسبياً من العصر الحديث – لصالح الشعر ليس جريمة يحاسَب عليها الشعر وإنما هي كسبه الذي حازه باستحقاق تؤكّده القرون وتصادق عليه الذائقة والوجدان العربيين. أراد العرب حياة بمواصفات محددة وأوكلوا مهمة الحفاظ عليها إلى الشعر فنهض بالمهمة خير قيام. واستجابةً لانفعال شخصي قلت في ذلك المقام، وربما تحديداً في غنائية شعرنا العربي الكلاسيكي:
مرآةُ الأمة إذ يُجلى ** فيها تاريخ تَنشُده
ما ضيّع قطّ أمانتها ** إذ كان حفيظاً مَرشده
هو نبض العرب حياتُهم ** كرّ الأيام تؤكده
ويؤكدها، صنوان وقد ** راحا وعلى يدها يده
ما أغرب أن نبقى دهراً ** بقديم العيش نمجّده
ونحاكم شعراً مع نمط ** في العيش الشعرُ يردده
أولى بالنقد العيشُ إذا ** لزم التجديدُ وموعده
الشعر بريءٌ إنْ رمنا ** بابَ التجديد أيوصده؟
ازرع نخلاً يثمر تمراً ** فجنى إنجازك تحصده
لكن محمد عبد القادر سبيل كما سلفت الإشارة – التي تبدو مغرية بالتأكيد كونها تدلّ على أحد أهم أعمدة المصنّف الكبير – لا يقف في “مرايا الشعر” مكتفياً بتأكيد مصداقية الشعر في نقل الحياة العربية على امتداد العصور، وإنما يمنح الشعر العربي مكانة فوق ذلك بوصفه أميناً على مكارم الأخلاق العربية لكونه أحد أبرز بواعث تلك المكارم في الشخصية العربية منذ الجاهلية وحتى العصر الحديث.
الأهم في “المرايا” على الصعيد الفني الصرف هو دقة وأناقة وسلالة الانتقاء من أعماق ديوان العرب الزاخر، بحيث يلقى هذا الغرض العربي الأصيل وما يضمّه من المعاني السامية ما يليق بهما من الاحتفاء الرفيع على صعيد الأدب بأجمل ما في الكلمة من المعاني المتشابكة والعميقة.