عمرو منير دهب يكتب: جــِـرْسة مُبدِع

nasdahab@gmail.com

مِن نِعم الله على عباده المبدعين أن جعَل الناس معنـيّين بتلقي إبداعهم مكتملاً لا بمتابعة هذا الإبداع وهو يتشكّل، وعليه فإن بإمكان كل مبدع أن يزهو بكامل وقاره وهو يعرض بضاعته على الناس، غناءً أو إلقاءً أو كتابة. وما عدا ذلك من صور عرض بضائع المبدعين كثيرٌ، خاصة إذا تجاوز تعريف الإبداع (ولا بد من أن يتجاوز) الآدابَ والفنون.

الناس لا يهتمّـون بالطريقة التي يفكّر بها مهندسو ” تويوتا” أو “مرسيدس بنز” لإنجاز ثورة في تصميم المحركات التي تدفع بها هذه الشركة أو تلك مع طراز جديد من السيارات إلى السوق. ولعل أول ما يلفت الانتباه في الطراز الجديد من السيارة ليس سعة المحرّك (ولا الجديد في تقنيته بالتأكيد) وإنما التصميم الخارجي والداخلي للسيارة، الذي هو عمل فني صِرف، وهذا أحد المقامات النادرة التي تـتـوسّـل فيها ضروب الإبداع العملية إلى ضروب الإبداع النظرية (إذا تجاوزنا حقيقة أن إنزال خيال الفنانين إلى الواقع إبداع عملي منقطع النظير يستوجب اعتراف الفن بجميل الهندسة).

في المقابل يهتم الناس أيّما اهتمام بالطريقة التي ينظم بها شاعر مشهور (أو حتى مغمور) قصائده، ولعل طقوس الكتابة كانت غرضاً أثيراً طرقته التحقيقات الصحفية الأدبية وغير قليل من أبواب الكتب ولاتزال.

اللافت أن المبدعين شعراء وكُـتــّـاباً وفنانين يُـفيدون في تلك التحقيقات بما يحافظ على قداسة لحظات الإبداع تلك في أعين المتلقين ويُشبع فضولهم على الشاكلة التي يتوقعونها. وليس من الحكمة أن نطلب من أي مبدع عكس ذلك، كأن يفضح أسرار لحظات إبداعه بما يجعل الهالة التي تحيط بتلك اللحظات تتلاشى. أقصى ما نطمح إليه أن نظفر باعتراف أنيق لما هو غير جليل مما يتخلل عمل المبدِع، غير أن المبدعين مرة أخرى يضنــّـون على المتطفــّـلين من المُحققين الصحفيين و طلاب الدراسات الأكاديمية العليا ذات الصلة باعتراف ما لم يكن ذلك الاعتراف مكسوّاً بما يخرجه جذاباً في ثياب الفكاهة والطُرَف (لا أدري إن كان يدخل في هذا الباب اعتراف بعض الشعراء بأن أجمل قصائده هو ما أبدعه في الحمّام، من غير أن يذكر موقعه في الحمّام على وجه التحديد).

أحد أشهر فناني أوروبا في أحد أشهر عصورها الفنية (لسوء حظي نسيت اسم العصر، ولحسن حظ الفنان نسيت اسمه) كان يُـسمـَع صوتُ نحيبه داخل الغرفة المغلقة التي يرسم فيها، وعندما يُهرع أقرباؤه إليه ويستجدونه أن يفتح الباب ليطمئنوا عليه لا يجدون في الأمر مكروهاً سوى أن الفنان العظيم يبكي لأنه لا يستطيع أن يرسم بسبب فرار الإبداع المتواصل من قبضة خياله، ولعل أحد الأقرباء الحانقين هو مـَـن وشى بالرجل وسرّب القصة خارج أسوار العائلة.

في السياق أعلاه كان البحتري شاعر العرب الكبير يبادر من تلقاء نفسه إلى ما أسميناه “الاعتراف الأنيق” مستبقاً بذلك محاولات الأقرباء الحانقين للتشهير، فيؤكد أن خلع ضرس أهون عليه في بعض لحظات إبداعه من نظم بيت واحد من الشعر (ولا يذكر البحتري على أية حال إذا كان خلع الضرس مما يُبكيه، فنعرف تبعاً لذلك إذا كان يبكي في بعض لحظات إبداعه – أسوة بنظيره الرسام العظيم الذي سيبزغ نجمه لاحقاً في سماوات أوروبا – أم لا).

طقوس الإبداع كما هي في إفادات المبدعين الصحفية المتأنقة تشي بالنصف الأكثر جمالاً ووقاراً لحقيقة لحظات الإبداع، لذلك حذار أن يخدعك مبدع وأنت تسأله: “كيف تبدع ؟”. لا ينبغي أن تشبع فضولك أجوبة من قبيل: “أنعزل في غرفة مغلقة”، “أكتب في الليل فقط”، “أكتب في أماكن خاصة”، “أمسك بالغليون وأنا أكتب”. اسأل ذلك المبدع لماذا لا يكتب في النهار، فقد يكون ذلك هو الوقت الذي يضطره إلى البكاء إذا أُجبــِـر على الإبداع فيه، واسأله عن تلك “الأماكن الخاصة” التي لا يبدع في غيرها، وحاول أن تكون أكثر تحديداً وأنت تسأل عن ذلك المكان الخاص.

Exit mobile version