nasdahab@gmail.com
“كيف تــُـعرِّف نفسك؟”، هذا أرقى ما قد يحصل عليه الكاتب المشتغل بمهنة أخرى من تقدير في حق ما يكتب، فالناس عادة تنصرف إلى تقديره على الطريقة الشهيرة في الاحتفاء بصاحب أكثر من صنعة، وعندما تكون الكتابة إحدى تلك الصنعات تغدو الإشارة إليها بالموهبة وإلى صاحبها بالموهوب هي طريقة الاعتبار السائدة. ولا غرابة في الأمر أو تثريب على الناس “المتبرعين” بالتقدير، فمن يجمع بين الكتابة وغيرها من الصنعات يصعب (يستحيل؟) أن تكون الكتابة حرفته التي يجني منها عيشه، فلم نسمع عن تاجر أو طبيب أو معلِّم يمارس تلك المهن أوقاتَ فراغه التي يسنح بها عمله الرسمي متبتــِّلاً في محراب الكتابة، خاصة عندما يكون المرادُ الكتابةَ الإبداعية على إطلاقها لا تلك التي تحشر الكُتاب غصباً في زمرة الموظفين يمارسون أعمالاً مكتبية من شرفة تطل على الإبداع، فمعلوم أن الأخير لا يستقيم بوظيفة تقيِّده، وعليه فإن الزملاء من صحفيـِّـي الإصدارات الثقافية وأساتذة الجامعة بكليات الآداب – على سبيل المثال – هم مبدعون بطبيعة الحال عندما يصدرون أعمالاً أدبية خارج نطاق عملهم اليومي لا حين يكتبون مدفوعين بتعاليم وصف وظيفي يجب الوفاء بمتطلّباته استحقاقاً للراتب آخر الشهر.
ولأن الكتابة أمّارة بالسوء فإنها لا تفتأ تشاغل الكاتب عن كل صنعة أخرى – حتى إذا كان يجيدها أكثر من الكتابة أو يكسب منها قوته – فتزيِّن له أن يعرِّف نفسه كاتباً في المقام الأول، وإذا كان لا بدّ من تأخير التعريف بتلك الصفة استجابةً لاعتبارات يقتضيها السياق فلا مناص من أن يجيء التعريف المتأخر مزهوّاً بالصفة التي ينتظر الكاتب أن تخلع سحرها بالانبهار على المتلقــِّـي.
ولكن أليس ذلك كسبَ الكتابة الذي انتزعته عن استحقاق يشهد عليه الانبهار والتوقير يبديهما الناس تجاه الكُتــّـاب طواعية تقدَّمَ التعريف بموقعها (الكتابة) أو تأخرَ في سيرة الكاتب؟ ولأن الإجابة المنطقية هي نعم فإن السؤال التالي يجب أن يكون: لماذا إذن لا ندع الكتابة وشأنــَـها تستولي على ألباب الناس وتجعلهم يغدقون ألوان الإجلال الزاهية على الكُتــّـاب؟
الإجابة على السؤال أعلاه تبدأ – وربما تنتهي – بتوضيح مفاده أن القضية أساساً مع الكُـتــّــاب وليست مع الكتابة، فما نبحث عنه هو أصلاً سؤال يتعلّق بتخاذل الكُتــّـاب عن جعل الكتابة مهنة ذات شأن مادي بعد أن فرغت هي (الكتابة) من دورها ابتداءً وصعدت بمقامها المعنوي في نفوس الناس إلى ذرى غير مسبوقة منذ أمد بعيد في التراثين العربي والإنساني من قبل.
وربما كان الكُتــّـاب بريئين ابتداءً، فهم لم يزعموا في الأصل أن نيتهم هي جعل الكتابة المهنة الأسخى من الناحية المادية أو حتى في القائمة القصيرة للمهن المغدقة على الجيوب، ولكنهم يعودون مذنبين بامتياز حين يغارون لرؤية المهن الأخرى تغدق على المنتسبين إليها من النعم المادية أضعاف ما تبشــِّـر به الكتابة المرابطين من أبنائها وبناتها، ثم ينحون باللائمة (واللعنة؟) على كل ما (ومَن؟) يحيط بهم لأنه لم يلتفت إلى أهمية الكتابة بما يكفل لها سطوة مادية تعين أربابها على الزهو والخيلاء بواقع الحال لا لسان المقال والمقام مجرَّدَين.
لا ضير من تعايش المهن والهوايات على اختلاف أجناسها في سلام، والواقع أن تلك حقيقة لا يهتم بمناوشتها أكثر من (سوى؟) المبدعين في فنون الكتابة والرسم والموسيقى – وما يتفرّع عنها – على وجه التحديد، فهم من يصرّ على أنهم الاستثناء والبقية القاعدة. ولا تعليق لي على استثنائية أولئك المبدعين سوى بإضافة مفادها أن الاستثناء هم العباقرة والمجددون في كل مجال، والبقية من كل مجال كذلك (بما في هذا الكتابة) هم القاعدة.
ومع تداخل العلوم والمهن حديثاً أصبحت الحقيقة مربكة وموجعة في آن، فالرسم والنحت والفن التشكيلي لم تعد أسيرة اللوحات والفراغات يبتكر الفنانون خاماتها لتظل أسيرة الخيال مهما تجسّدت وهي تشير إلى أفكار مطلقة، بل صارت تلك الفنون في كثير من أشكالها قابلة للتجسيد بما يفوق تمثالاً من حجر أو فولاذ يخلِّد قائداً عسكرياً مرموقاً أو جندياً مجهولاً، فناطحات السحاب العملاقة باتت تجسيداً رفيعاً – من الوجهتين المادية والمعنوية – لا يدل على رمز مجرّد كما يحب أن يتخيله فنان فحسب وإنما تداخــُـل لجملة من الفنون والعلوم تتقاسم شرف الانتماء إليها طائفة عريضة من المبدعين انحصرت المهمة السامية لبعضهم في كيفية إنزال الخيال إلى واقع يسمو ليضم الحياة تسري بين أركانه، بكل دلالات الكلمة (الحياة) كما يحب أن يعرّفها من يشاء.
لا يزال الطب والهندسة حلم الآباء لأبنائهم بدافع الوجاهة الاجتماعية يخلعها المال الوفير تعود به المهنتان الجليلتان على المنتسبين إليهما، وإذا كان من سبب آخر لوجاهة الطب والهندسة اجتماعياً فالأرجح أنه يتأخر تراتبياً عن العائد المادي للمهنة. وهكذا فإن حظ الكتابة الإبداعية من التأثير على الناس (حتى إذا كان التأثير معنياً بالوجدان) لا ريب سيتأثر إذا لم يفلح ذلك الضرب من الإبداع في أن ينتزع أسباب بقائه المادية بعيداً عن التماس دعم الدولة واستجداء الجمهور الالتفاتَ إلى “غذاء الروح”، فبدون الاستقلال الواثق في تحرِّي أسباب البقاء نخشى أن تنكمش الكتابة فتغدو في منزلة هواية تنسيق البساتين يمارسها أحدهم في حديقة بيته الخلفية، أو “الأمامية” بتعريب مضمون التعبير.