حوار الطرشان في بلاد الألمان

الزبير نايل

أوراق لن تُنسى…
في كولون.. المدينة الألمانية التي ينساب وسطها نهر الراين بهدوء يشبه تنهيدة العاشق، نزلتُ في فندق عتيق بعد أن ودعت صديقي الذي شد الرحال إلى مدينة بون وتخلفت عنه يوما لاستمع إلى إيقاع هذه المدينة الخفيض وأن استحضر ذاتي تحت سمائها الرمادية ..

قادني الفضول لعبور جسر معلق فوق الراين والسماء تزأر فوقي بوعدٍ ماطر.. وعندما بلغت منتصف الجسر انهمر المطر دفعة واحدة.. توقفت كالطفل التائه مستسلما لزخات المطر دون مقاومة ..

المارة رمقوني بدهشة وبعضهم بشفقة وأنا مشغول عنهم بتلك اللحظة التي شعرت فيها أن جسدي أخيرا اتسع لروحي.. اقتربت مني عجوز تآكلت من غزارة الأمطار وهي طاوية جسدها تحت مظلتها. نظراتها كانت تسبق كلماتها وصاحت بشيء لم أفهمه رغم أنها ضغطت بقوة على حبالها الصوتية لتعويض فارق اللغة لكن يبدو لي أنها قالت:
لماذا تترك نفسك هكذا للمطر؟

آه..من يُبلغ عني ويشرح لسليلة الرايخ أنني من بلاد شمسها توقظنا بلا منبّه وتغيب بعد أن تُنضج جلودنا صبرا وتعجم أعوادنا لتقاوم المطر والرياح وتقلبات الزمن والحكومات، وأن المطر عندنا ليس اعتيادا موسميا وإنما بشارة حياة.. من يخبرها أننا نرى في المطر نعمة وفي البلل طُهرا..

نحن يا حفيدة هتلر من بلاد لا تشبه شيئا مما تعرفونه..بلاد المفارقات الحادة، حيث يموت الجوع متوسدا سنابل القمح وتعطش الأرض وهي متمددة على ضفة النهر ،تئن تحت وفرة لا تطعم وثروات لا تثمر .نحمل أسباب الحياة لكننا ندفن بلا حياء ..نولد في أحضان الشمس لكننا نعيش في ظلال الخيبة بفعل ساسة غير عقلاء..حتى صدق فيها قول الشاعر :
كالعيسِ في البيداء يقتلها الظما …
والماء فوق ظهورها محمول

استمر حوار الطرشان دقائق، ظلت تتحدث وأنا اتبسم وهي تتعجب.. أخيرا هزت رأسها ومضت عندما وجدت أنه لا فائدة وتركت هذا الكائن الغريب يستنشق الهواء من بين حبات المطر كأنه قادم من أرض الجفاف..

Exit mobile version