تحرير بارا ومعركة النهود: بوابة الجيش نحو حسم الحرب في كردفان ودارفور

عبدالناصر سلم حامد

لم تعد معارك كردفان مجرد مواجهات على أطراف الجغرافيا السودانية، بل أصبحت عقدة تحدد مستقبل الحرب برمتها. فبين بارا، التي كسرت الحصار عن الأبيض وأعادت فتح الطريق إلى الخرطوم، والنهود التي تمثل البوابة الاستراتيجية إلى دارفور، يتحدد المسار القادم إما انتصار استراتيجي يعيد للدولة هيبتها، أو استنزاف طويل يرهق الجيش والمجتمع على حد سواء.

تحریر بارا في سبتمبر 2025 لم يكن حدثا محليًا محدود الأثر، بل محطة فاصلة في مسار العمليات فالمدينة التي تبعد نحو 60 كيلومترًا من الأبيض مثلت
دائما عقدة لوجستية تتحكم في خطوط الإمداد بين الخرطوم والغرب المليشيا دفعت بآلاف المقاتلين ومرتزقة من تشاد والنيجر وحتى كولومبيا، واعتمدت على أسلوبها التقليدي في حرب العصابات والكمائن والهجمات السريعة عبر سيارات الدفع الرباعي. لكن الجيش نجح في قلب المشهد بعملية منسقة اعتمدت على المشاة والمدرعات مع غطاء جوي مكثف وضربات دقيقة عبر الطائرات المسيرة، ما أدى إلى انهيار دفاعات الخصم وتحرير المدينة.

الأثر المباشر كان لوجستيا فقد أدى تحرير بارا إلى إعادة فتح الطريق بين الخرطوم والأبيض، وهو شريان حياة استراتيجي يسهل نقل الذخائر والمؤن وإخلاء الجرحى. هذا الطريق ظل لشهور طويلة عرضة للقطع ما جعل الأبيض شبه معزولة. ومع فك هذا الطوق استعاد الجيش القدرة على الإمداد والتحرك بحرية أكبر لكنه لا يزال يواجه تهديدًا محتملاً من جهة جبرة الشيخ التي قد تتحول إلى منفذ التفاف معاد. لذلك يركز الجيش على تأمين هذه الجبهة ضمن طوق أمني واسع يحمي الممر ويضمن استدامة الإنجاز.

الأبيض، على بعد 360 كيلومترًا من الخرطوم، استعادت مكانتها كـ مركز ثقل” للعمليات. فهي عاصمة شمال كردفان و مفترق طرق رئيسي يربط الشرق بالغرب والجنوب. حصارها السابق كاد أن يشل الوسط بأكمله، لكن فك الطوق عنها أعادها إلى موقعها الطبيعي كقاعدة خلفية لإدارة العمليات ومخزن استراتيجي لإعادة تمركز الألوية اليوم الأبيض ليست مجرد مدينة محررة، بل القلب النابض للجيش ومنطلقه نحو المعارك الأوسع.

غير أن النهود تبقى الاختبار الأصعب. المدينة، التي تبعد 110 كيلومترات غرب الأبيض، تمثل عقدة استراتيجية حقيقية. فالسيطرة عليها ستعني انتقال مركز ثقل الحرب إلى دارفور مباشرة، وهو ما تدركه قوات الدعم السريع جيدًا. لذلك حشدت أكثر من ستة آلاف مقاتل في محيطها، واستقدمت مرتزقة إضافيين، محاولة بناء دفاع عمقي يحول دون تقدم الجيش تحرير النهود سيعني فتح الطريق إلى الفاشر ونيالا وزالنجي، أي إلى قلب دارفور حيث شبكات الدعم الاجتماعي والعسكري للمليشيا، ولذلك تحولت المعركة حولها إلى معركة مصيرية لكلا الطرفين.

تكتيكات الجيش في مواجهة هذا الحشد تقوم على مزيج من الاستطلاع الجوي والضربات الدقيقة واستهداف خطوط الإمداد الخلفية، إضافة إلى تنفيذ هجمات متزامنة من أكثر من محور الإرباك الخصم وتشتيت دفاعاته الهدف ليس فقط السيطرة على الأرض، بل تحطيم قدرة المليشيا على التماسك وإجبارها على القتال في ظروف تفقدها عنصر المفاجأة الذي اعتمدت عليه طويلا.

وإذا كانت النهود هي عقدة شمال كردفان، فإن أبو زبد تمثل مفتاح غربها. السيطرة عليها ستعني عمليا تحييد الولاية بأكملها، وهو ما سيحرم المليشيا من أي إمكانية لإعادة التموضع غربًا. أما الدبيبات فهي البوابة إلى الدلنج وربط الجنوب بالوسط، والسيطرة عليها تعيد فتح الطريق بين سن كادقلي والأبيض، وتمنح الجيش شبكة إمداد موحدة تسمح بالمناورة بين جبهات مختلفة دون خوف من العزلة أو الانقطاع.

لكن المعركة ليست جغرافية فقط، بل نفسية واجتماعية أيضًا. فقد خرج المدنيون في بارا والأبيض لاستقبال القوات بالهتاف والترحيب في مشاهد أعادت للدولة هيبتها ورفعت الروح المعنوية للمقاتلين في المقابل فقدت المليشيا هالتها كقوة لا تُهزم، ما انعكس على قدرتها في التجنيد والحفاظ على ولاء مقاتليها الإعلام لعب دورًا موازيًا للسلاح، إذ تحولت صور الترحيب بالجيش إلى رسائل استراتيجية ضربت رواية الدعم السريع وأضعفت حجته السياسية.

إقليميًا، يتجاوز أثر هذه المعارك حدود السودان. فليبيا وتشاد تتابعان بقلق لأن إغلاق طرق التهريب سيغير معادلات التجارة غير الرسمية في المنطقة مصر وإثيوبيا تراقبان الوضع عن كثب نظرًا لارتباطه باستقرار البحر الأحمر وحوض النيل الإمارات التي وجهت إليها اتهامات بدعم المليشيا، تجد أن خسارة كردفان ستضعف نفوذها العسكري والاقتصادي في السودان. أما القوى الدولية، فترى أن من يسيطر على كردفان يملك ورقة حاسمة في أي تسوية سياسية قادمة.

التاريخ يبرهن على أن كردفان لم تكن يوما ساحة هامشية. ففي الثورة المهدية أواخر القرن التاسع عشر كانت نقطة انطلاق أساسية لإسقاط الخرطوم. وفي ثمانينيات القرن الماضي، شكلت معارك الرهد وكادوقلي مفاصل حاسمة في الحرب الأهلية. واليوم يعيد التاريخ نفسه من يسيطر على كردفان يملك مفتاح الوسط والغرب معًا.

التحديات المقبلة لا تقل عن الإنجازات الحالية. الجيش بحاجة إلى تثبيت مكاسبه عبر تأمين جبهة جبرة الشيخ وضرب تجمعات المليشيا حول النهود، والسيطرة على أبو زبد والدبيبات لضمان فتح الطريق نحو الدلنج. في المقابل، ستواصل المليشيا الاعتماد على الكمائن وقطع الطرق مستفيدة من الجغرافيا طرق طويلة مكشوفة شمالا وسافانا كثيفة جنوبًا. لكن استخدام الجيش المكثف للمسيرات والاستطلاع الجوي، وتوزيعه القوات على محاور متعددة، قلّص قدرة المليشيا على المباغتة وجعلها أكثر عرضة للخسائر.

الخلاصة أن السودان يقف اليوم عند مفترق طرق تاريخي، لكن المؤشرات على الأرض تؤكد أن الجيش يتقدم بخطى ثابتة وقوة متصاعدة. فبعد تحرير بارا وفك الطوق عن الأبيض، باتت معركة النهود وأبو زبد والدبيبات أقرب إلى الحسم. كل خطوة يحققها الجيش تعني انحسار نفوذ المليشيا وتراجع قدرتها على الصمود. ومع استمرار الزخم العملياتي واتساع التفوق اللوجستي والتكتيكي، فإن تحرير كردفان بالكامل لم يعد سوى مسألة وقت، ليُفتح الطريق أمام دخول دارفور من موقع قوة، وإنهاء مرحلة المليشيا إلى غير رجعة. إن الجيش لا يدافع فقط عن أرضه، بل يرسم بدماء جنوده ملامح السودان القادم، سودان محرر من الفوضى والإرهاب.

Exit mobile version