بين الدولة والتهريب: من أين تأتي سياسات تصدير الذهب

في 14 سبتمبر 2025، أصدر بنك السودان المركزي منشوراً جديداً يقضي بقَصْر شراء وتسويق وتصدير ذهب التعدين الأهلي وذهب شركات مخلفات التعدين عليه، مع إبقاء إمكانية تصدير شركات الامتياز لـ 70% من إنتاجها، بعد بيع 30% منه إلى البنك.
وأكّد البنك المركزي أنه سيشتري الذهب وفق أسعار البورصة العالمية وبالسعر السائد في السوق المحلي، في إشارة إلى تبنّي سعر صرف واقعي لتفادي تكرار أخطاء الماضي. كما ألزم البنك المُصدّرين بإيداع حصيلة الصادر في حساباتهم داخل السودان خلال 21 يوماً من تاريخ الشحنة، بما يضمن مرور الدولارات عبر القطاع المصرفي وليس بقاءها في الخارج أو في السوق السوداء، كما سمح للمصدّرين باستخدام حصائل الصادر في استيراد السلع، وفق نسبٍ هي 70% للسلع الاستراتيجية و30% للسلع الأخرى.
أتت هذه الخطوة والسودان يواجه أزمةً حادّةً في النقد الأجنبي وانهياراً غير مسبوق في عملته الوطنية على وقع حربٍ مستعرة منذ أبريل 2023. لقد تدهور الجنيه السوداني من حوالي 600 جنيه للدولار قبيل الحرب إلى مستويات قياسية تجاوزت 3000 جنيه في مقابل الدولار في السوق الموازية بحلول أواخر 2025، ما أدّى إلى موجة تضخّمية هائلة. وفي ظلّ تراجُع معظم القطاعات الإنتاجية الأخرى بسبب النزاع، برز الذهب مصدراً رئيساً للعملات الصعبة، إذ يُقدَّر أن الذهب شكّل نحو نصف صادرات السودان في السنوات الأخيرة.
لكن على الرغم من هذه الأهمية المتصاعدة، ظلّت الصادرات الرسمية للذهب متدنيةً جداً مقارنةً بالإنتاج الفعلي بسبب انتشار التهريب وتآكل سيطرة الدولة على هذا القطاع الحيوي. وتُشير الأرقام الرسمية إلى وجود فجوةٍ كبيرةٍ بين الإنتاج والصادرات الرسمية، تصل أحياناً إلى غياب 70% مما يُنتج عن الصادرات الرسمية للبلاد. وفي يوليو 2025، قال المدير العام لشركة الموارد المعدنية محمد طه عمر لوكالات إعلامية، إنّ حوالي 48% من ذهب السودان المُنتَج عام 2024 هُرّبَ مقابل دخول 52% منه إلى القنوات الرسمية.
وفي أغسطس 2025، فرضت الإمارات التي يصدِّر إليها السودان حوالي 95% من ذهبه المُصَرَّح عنه، حظراً على جميع الواردات من السودان، بما في ذلك الذهب، ضمن سياق الضغوط الدولية المرتبطة بالحرب، بحسب حديث مُصدِّري ذهب إلى «أتَـر»، ما شكّل صدمة إضافية دفعت صُنّاع القرار للإسراع بتبني إجراءات استثنائية لإنقاذ الاقتصاد المتدهور.
وأُثيرت تخوّفات حول الآثار الجانبية المحتملة لهذه الخطوة، إذ حذّر الخبير الاقتصادي هاني أبو عاقلة من أنّ إعادة تجربة احتكار الدولة لتجارة الذهب، وهي سياسة جُرّبت من قبل وفشلت في كبح التهريب، قد تؤدي إلى نتائج عكسية إذا لم تُنفَّذ بطريقة مختلفة هذه المرة، فقد أدت السياسات الاحتكارية السابقة للبنك المركزي (خلال 2011–2017) بحسب هاني، إلى عزوف المعدّنين عن البيع للدولة بسبب تسعير الذهب بسعر صرف رسمي منخفض وغير واقعي، ما دفعهم نحو التهريب وساهم في اتساع السوق السوداء.
وفي المقابل، ترى اللجنة الاقتصادية الحكومية أنّ الظرف الاستثنائي الذي يمرّ به السودان حالياً يتطلب إجراءات جريئة، وأن التجربة الاحتكارية هذه المرة تأتي بصيغة مُعدَّلة تستفيد من دروس الماضي لا سيما الالتزام بتوحيد سعر الصرف وتوفير سعر مجزٍ للمعدِّنين.
مع استقلال جنوب السودان، فقَدَ السودان أكثر من 80% من صادراته ممثلةً في الصادرات البترولية، فبرز الذهب بديلاً ومورداً مهماً للعملات الصعبة. لكن عانى الذهب من تفشّي التهريب، الذي يتجلى أثره في الفروق الكبيرة بين ما يُنتَج وما يُصَدَّر رسمياً. ويتضح من الجدول أعلاه أن الإنتاج الرسمي المُعلن ظلّ يفوق بكثير كميات الذهب المصدَّرة رسمياً، ما يعني أن جزءاً ضخماً من الذهب المُستخرج كان يختفي عبر القنوات غير الرسمية. في الفترة 2015-2018 مثلاً، لم تظهر في سجلات الصادر سوى 20-40 طناً سنوياً من أصل 80–107 أطنان أُنتجت في كلّ سنة. وقدَّرت دراسةٌ أجريت عام 2016 على 18 منجماً في مختلف ولايات السودان، تهريب نحو 153 طناً من ذهب السودان في الفترة من 2014 وحتى 2018.
لكن خلال 2019-2022، ومع بعض الإصلاحات، تقلّصت الفجوة نسبياً، ثم عادت للاتساع بعد نشوب الحرب في العامين (2024-2025)، مع تعافي الإنتاج وضعف الضبط، لتناهز حوالي 60% من الذهب المنتج عام 2024.
يعني هذا النزف المستمر أنّ السودان فقد مليارات الدولارات من العائدات المُحتمَلة. وعلى سبيل المثال، لو صُدِّر الإنتاج البالغ 107 أطنان عام 2017 بالسعر العالمي (حوالي 40 ألف دولار للكيلوغرام وقتها)، لتجاوزت العائدات 4 مليارات دولار في ذلك العام؛ لكنّ ما دخل الخزانة العامة رسمياً كان حوالي 1.5 مليار فقط، وهو فقدٌ يبلغ حوالي 2.5 مليار دولار.
وكان لسياسات الحكومة دورٌ كبيرٌ في تفشي التهريب؛ ففي الفترة الأولى بعد استقلال جنوب السودان، تولى بنك السودان المركزي حصرياً شراء الذهب المُنتَج محلياً وتصديره. كان الهدف المعلن تجميع أكبر قدر ممكن من النقد الأجنبي لدعم الجنيه وتمويل الواردات الأساسية. وأصدر البنك المركزي آنذاك لوائح تُلزم المُنتجين، خاصة المعدّنين الأهليّين، ببيع ذهبهم له بسعر يحدّده البنك ويرتبط بسعر الصرف الرسمي، لكن هذه السياسة أدت إلى نتائج عكسية، إذ فضّل معظم المُعدِّنين والتجّار تهريب الذهب وبيعه خارجياً للاستفادة من سعر الدولار الأعلى في السوق الحرة. هكذا ازدهرت السوق السوداء للذهب، وتكوّنت شبكات تهريب نشطة عبر الحدود. وتُقدّر وزارة المعادن أن أكثر من 80% من إنتاج الذهب آنذاك كان من التعدين الأهلي الفردي الذي يصعب ضبطه، وكثير منه هُرّب مباشرة عبر الحدود دون أن يمر بالخرطوم.
بحلول 2017، أدركت الحكومة السابقة خطورة الوضع، خاصةً مع اضطرب سعر الصرف، إذ واصل الجنيه الانهيار من حوالي 5 جنيهات للدولار في 2011 إلى 16 جنيهاً في 2016، ثمّ بلغ في السوق الموازية قرابة 27–30 جنيهاً بنهاية 2017، فسعت إلى تخفيف قبضة الاحتكار على استحياء. وسَمَح البنك المركزي في مارس 2017 لعدد من شركات القطاع الخاص بتصدير الذهب وفق شروط محدودة. تضمّنت السياسات الجديدة آنذاك إلزام الشركات الخاصة ببيع نصف إنتاجها لمصفاة السودان للذهب وتصدير النصف الآخر، فظهر تحسّن طفيف في الاحتياطيات. لكن في نوفمبر 2017، وأمام استمرار تدهور العملة بوتيرة سريعة، تراجعت الحكومة فجأة عن التحرير، وأعادت احتكار البنك المركزي على نحوٍ أشدَّ صرامة. كانت هذه العودة السريعة للاحتكار إجراءً إسعافياً لمحاولة إيقاف نزف العملة، لكنها لم تَنجح كثيراً في كبح التهريب أو تعزيز الاحتياطي.
ثمّ بعد سقوط نظام البشير في أبريل 2019، طبقت الحكومة الانتقالية رؤية إصلاح اقتصادي هيكلي تتضمّن تحرير سوق الذهب مع ضبطه رسمياً. وفي بداية 2020 أصدر بنك السودان منشوراً تاريخياً أنهى فيه فعلياً احتكار شراء الذهب وتصديره من قِبله. سمح المنشور للشركات المُنتِجة، بما فيها شركات التعدين الصغير، بتصدير النسبة الأكبر من إنتاجها مع التزامها ببيع نسبة محدودة للمركزي، إذ سُمح لشركات الامتياز بتصدير 70% من إنتاجها، على أن تبيع 30% منه للبنك المركزي، كذلك سُمح لشركات مخلفات التعدين والتعدين الصغير بتصدير 15% من إنتاجها وبيع الـ 85% المتبقية للمركزي. انفتحت هذه السياسة كذلك على المنافسة الخارجية، إذ أتاحت لأي جهة اعتبارية (شركة أجنبية أو محلية)، أن تصدِّر الذهب السوداني بعد استيفاء الإجراءات والدفع المقدم. عوّم السودان في فبراير 2021 عملته، ووحَّد سعر الصرف، ما أغلق الفجوة بين السعرين الرسمي والموازي لفترة. عزّزت هذه الخطوة نجاح سياسة الذهب؛ إذ بات السعر المحلي للذهب مُقارِباً للسعر العالمي، فلم يعد لدى المعدِّنين دافع قوي للتهريب كما سبق.
كانت نتائج هذه الفترة أفضل نسبياً، إذ انخفض التهريب جزئياً وازدادت الحصائل الرسمية للذهب في 2020–2021، ما دعم استقرار الجنيه لفترة. ويُستدلّ على ذلك من الأرقام؛ إذ بلغ الإنتاج المعلن 35.7 طناً عام 2020، وارتفعت الصادرات الرسمية إلى 25 طناً، ثمّ ارتفعت حصيلة صادرات الذهب الرسمية إلى 2.02 مليار دولار في 2022، بإنتاج بلغ 41.8 طناً وصادراتٍ بلغت 34 طناً وانخفض التضخم إلى نحو 90%.
بالطبع، لم تُحل المشكلة بالكامل؛ إذ بقي حوالي ثلث الإنتاج خارج النظام وفق إحصاءات 2021–2022، لكن بالمقارنة مع السابق، كان هذا النظام أكثر مرونة وكفاءة، ولم يعد المنتِج مجبراً على بيع مركزي بسعر بخس؛ بل يستطيع التصدير المباشر وتحويل العائد عبر المصارف.
لكن اندلاع الحرب في أبريل 2023 قلب المشهد رأساً على عقب؛ إذ تعطلت مؤسسات الدولة وتفلت الأمن العام خاصة في مناطق إنتاج أساسية (دارفور ومنطقة النيل الأزرق)؛ فعاد التهريب للازدياد بوتيرة أكبر، وتراجعت السيطرة الرسمية على المناجم لمصلحة أطراف النزاع. أمام هذا الوضع، وجدت الحكومة نفسها مضطرة لإجراءات طوارئ اقتصادية؛ فشكّلت لجنة عليا للطوارئ الاقتصادية برئاسة رئيس الوزراء كامل إدريس، وأصدرت هذه اللجنة توصيات صارمة في سبتمبر 2025 نتج عنها منشور المركزي الجديد.
يُمكن اعتبار هذه الفترة انعطافة جديدة نحو إعادة بسط يد الدولة على قطاع الذهب على نحو أكبر مما كان عليه منذ 2020، ليكون ذلك القرار ردّ فعل مباشراً للفوضى التي أحدثتها الحرب، وذلك عبر النص الصريح على حصرية التصدير عبر بنك السودان المركزي وليس فقط إلزام بيع نسبة له كما كان منذ 2020. هذه النقلة تعيد الوضع جزئياً إلى ما قبل 2017 من حيث مبدأ «احتكار التصدير»، لكنها تختلف من حيث الظروف والضمانات، فسعر الصرف الرسمي الآن أقرب للسوق بعد تعويم 2021، وهناك أدوات رقمية وقانونية جديدة للرقابة لم تكن متوفرة سابقاً.
أثر السياسات الجديدة على قطاع التعدين السوداني
أعادت السياسات الجديدة إلى بنك السودان المركزي دَور المشتري والمُصدّر الرئيس للذهب المُنتَج في البلاد، ما يعني عملياً إلغاء تعدّد الوسطاء والمُشترين الذين كانوا ينشطون سابقاً. ويُفترض نظرياً بهذا الاحتكار المنظّم أن يُقلّل التسرّب والتهريب عبر إحكام رقابة الدولة على الكميات المُنتَجة والمُصدَّرة.
وعلى المدى القريب، قد يوفر وجود مشترٍ مضمون وكبير مثل البنك المركزي حافزاً للإنتاج ولدخول المنتجين للقنوات الرسمية، إذ إنّه يمنح المُعدِّنين الثقة بأن ذهبهم سيجد سوقاً داخلها، وبسعرٍ مُعلن ومُماثلٍ لسعر البورصة العالمي. وتُركّز السياسات الجديدة على تنظيم قطاع التعدين التقليدي ووضعه تحت الرقابة الرسمية، من خلال وجود وكلاء معتمدين للبنك المركزي أو منافذ شراء في مناطق الإنتاج، ما قد يرفع كفاءة الإنتاج ويحدّ من العشوائية؛ فعندما يعلم المنقِّب الأهلي أنّ بإمكانه بيع ذهبه في منطقته إلى نقطة شراء تابعة للبنك المركزي بسعر مجزٍ (بعد تقييمه بمصفاة عطبرة مثلاً)، لن يضطر إلى اللجوء للوسطاء غير الرسميين الذين كانوا يستغلونه بأسعار أقل أو يسهّلون تهريب الذهب عبر الحدود.
من جهة أخرى، قد يتأثر الاستثمار الأجنبي في القطاع سلباً، إذا شعر المستثمرون بقيود كبيرة على حرية تصدير أرباحهم من الذهب؛ لكن تجدر الإشارة إلى أنّ السياسة الجديدة لم تمنع شركات الامتياز الأجنبية من تصدير معظم إنتاجها بعد بيع النسبة المقررة للمركزي، كما تسمح لها بالاحتفاظ بحصيلة الصادر في حساباتها الخارجية لاستخدامها بحسب اتفاقيات قسمة الإنتاج. وتخفف هذه الترتيبات من قلق المستثمرين الأجانب، إذ ما زال بإمكان الشركات الكبرى جني عوائد بالدولار من معظم إنتاجها.
ومن المتوقع، حسب رؤية الحكومة السودانية، أن تؤدّي هذه الإجراءات إلى ارتفاع الصادرات الرسمية من الذهب عبر تقليص الكميات المُهرَّبة وإلزام جميع المنتجين بالتصدير عبر النافذة الموحّدة. وتوقّع مسؤول في بنك السودان فضّل حجب اسمه، في حديثٍ لـ«أتَـر»، أن يؤدي إلزام جميع الجهات المُنتِجة بتمرير الذهب عبر بنك السودان المركزي إلى تسجيل كميات أكبر ضمن الصادرات الرسمية بدل تسرّبها للخارج. وقال المسؤول إنّ الفجوة الكبيرة بين الإنتاج والصادرات يُفترض أن تضيق في 2025 وما بعدها، إذا ما نجحت السياسة الجديدة في رفع نسبة الإنتاج الذي يُباع ويُصدَّر عبر القنوات الرسمية إلى 70% أو أكثر.
وأضاف أنّ السياسة الجديدة اشترطت الدفع المقدم بنسبة 100% بالدولار وفق سعر البورصة العالمية قبل شحن أي ذهب للتصدير، سواءٌ أكان بواسطة بنك السودان أم المصدرين من القطاع الخاص، وقال إنّ هذا الإجراء يضمن دخول النقد الأجنبي قبل خروج الذهب، ويحول دون ظهور المشكلات السابقة، إذ كان البعض يصدّرون الذهب دون إعادة عائده، ما يُعرف بتجارة الصادر دون حصيلة. كذلك يضمن مَنعُ تصدير الذهب خاماً دون تنقيته عبر مصفاة السودان للذهب، فحصَ العيارات والأوزان محلياً قبل خروج الشحنات، وهو تدبير يمنع التلاعب في جودة الذهب المصدر وكمياته.
تجدر الإشارة إلى إنشاء نافذة موحدة للصادرات الذهبية في أواخر 2024، لتبسيط إجراءات التصدير ومتابعتها إلكترونياً حسب ما ذكر محمد إبراهيم، عضو الإدارة المنفذة للنافذة الموحّدة للذهب. وقال محمد في حديثه لـ«أتَـر»، إنّ المنصة الرقمية وفرت شفافيةً وتتبعاً لحظياً لكل شحنة ذهب من لحظة استلامها وحتى عودة عائدها، ما يُصعّب كثيراً عملية التهرب الجمركي أو المالي، مُضيفاً أنّ جميع الرسوم المرتبطة بالجمارك قد أُلغيت بالكامل، وأن هناك مفاوضات جارية مع الغرفة التجارية لتقديم خدمات خالية من الرسوم، إذ جرى بالفعل تجهيز النظام الإلكتروني لإصدار شهادات المنشأ في هذا الإطار، وقال إنّ الغرفة التجارية، بصفتها المظلة التي تجمع المصدرين، تتولى إجراءات الإعفاء لمصلحتهم، بينما تخلّت وزارة المعادن والشركة السودانية للموارد المعدنية عن الرسوم المفروضة على الاستمارات كلياً، وأوضح أن ما يُحصَّل حالياً من مبالغ هو رسوم رمزية لتسهيل المعاملات، بعدما جرى إعفاء نحو 80% من الرسوم، مع استمرار العمل على دراسة إعفاء المتبقي، لكنه أكد في الوقت نفسه أنّ بعض الرسوم المرتبطة باتفاقيات دولية وقوانين قائمة لا يمكن إلغاؤها كلياً.
ويُعيد هذا النظام جزءاً كبيراً من تجارة الذهب إلى النظام المصرفي الرسمي، بعد سنوات من هيمنة السوق الموازية؛ فعمليات الدفع المقدّم عبر البنوك وإلزام المصدّرين بإيداع حصيلة الصادر في حساباتهم داخل السودان خلال 21 يوماً من تاريخ الشحنة يضمن مرور الدولارات عبر القطاع المصرفي وليس بقاءها في الخارج أو في السوق السوداء، كما أن السماح للمصدّرين باستخدام جزء من الحصيلة في استيراد السلع الضرورية، وفق نسب 70% للسلع الاستراتيجية و30% للسلع الأخرى كما كانت السياسة في 2022؛ يربط ذهب الصادر بحركة تجارة شرعية داخل الاقتصاد بدل أن تُهرّب الحصائل وتُستخدم لأغراض المضاربة.
انعكاس السياسات الجديدة على المؤشّرات الاقتصادية العامة
إنّ الذهب حالياً هو أكبر صادرات السودان، ولذلك فإنّ من شأن إحكام السيطرة على صادراته زيادة تدفق النقد الأجنبي عبر القنوات الرسمية وتخفيف شحّ الدولار. وبدورها، ستسهم زيادة عرض الدولار عبر البنك المركزي والبنوك التجارية في تمويل الواردات الضرورية كالوقود والقمح والأدوية، وتخفيف فجوة العملة، كما أن الاحتياطيات الأجنبية للبنك المركزي مرشّحة للارتفاع أو على الأقل الاستقرار بعد استنزافها في الفترات الماضية.
كما سيُحجِّم توفير الدولارات عبر القنوات الرسمية المصرفية تلقائياً الطلبَ في السوق السوداء، ويزيد عرض العملة الصعبة في السوق الرسمي، ما يُخفّف الضغط على الجنيه. فمن جهة، سيضطر المصدّرون لضخّ معظم ما يكسبونه من دولارات إلى داخل النظام المصرفي، بدلاً عن احتفاظهم بها في الخارج أو بيعها لتجار العملة. ومن جهة أخرى، فإنّ حصر التصدير عبر البنك المركزي يعني أنه سيصبح المتحكم الأكبر في المعروض الدولاري من الذهب، ما يمكّنه من إدارة سعر الصرف عبر توفير النقد الأجنبي للمستوردين وفق السعر الرسمي أو سعر مزاد منضبط. وقد شدد أعضاء اللجنة الاقتصادية على ضرورة توحيد سعر الصرف لمنع أي تشوّهات أو تسرّب في عوائد الصادر، إذ كان وجود أكثر من سعر يفتح الباب واسعاً للفساد والتهريب. إذا نُفّذت هذه التوصية، فسيُغلق أبرز منفذ للمضاربة، وسيَستعيد البنك المركزي زمام المبادرة في سوق الصرف بعيداً عن سيطرة تجار العملة؛ وسيُقلّل استقرار العملة من حدة التضخم الداخلي، فعندما يتحسن سعر الصرف أو يستقر نتيجة تدفق الدولار من الذهب، ستنخفض تكاليف الاستيراد نسبياً، لينعكس على تباطؤ وتيرة ارتفاع الأسعار محلياً، خاصة في سلع مثل الوقود والدقيق. إضافة إلى ذلك، فإن السياسات الجديدة تضمنت مراجعة رسوم وجبايات الولايات وتسهيل إجراءات الواردات (هناك منصة إلكترونية لمتابعة الواردات وضبط استيراد السلع الكمالية مثل السيارات)، وهذه خطوات مساندة لتخفيض تكاليف السلع وتخفيف الضغوط التضخمية.

تحديات ومخاوف

أثارت الخطوة مخاوف أوساط اقتصادية من عودة الاحتكار وهيمنة الدولة الكاملة على سوق الذهب. وقد انتقدت شُعبة مصدّري الذهب (وهي تجمّع التجّار المصدّرين) هذه الخطوة فور إعلانها، ووصفتها بأنها عودة لنظام الاحتكار الحكومي القديم الذي كان قائماً قبل بضع سنوات، لكن سرعان ما أصدرت الشعبة بياناً آخر يتراجع عن الاعتراض. ويتخوّف المصدرون المحليون من أن تركيز الصلاحيات بيد جهة واحدة سيقصيهم تماماً من مجال التصدير ويلحق الضرر بمصالحهم التجارية.

متحدّثاً لـ«أتَـر»، يقول عبد المنعم تبيدي، وهو أحد مصدّري الذهب، إنّ انفراد البنك المركزي بالشراء قد يعني دفع أسعار أقل من السعر العالمي لاحتكاره السوق، ما يُضرّ بأرباح المُنتِجين، وإن تجربة السودان السابقة تُعزّز هذه المخاوف.

كذلك قد يواجه البنك المركزي تحدياً في توفير السيولة اللازمة لشراء الذهب من المنتجين خاصةً إذا كانت الكميات كبيرة، ففي حال اضطر لطباعة كميات ضخمة من الجنيهات لشراء الذهب والاحتفاظ به احتياطياً، قد يؤدي ذلك إلى تضخم الكتلة النقدية ما لم يقابله امتصاص لنقد أجنبي مكافئ، وهذا أحد التحذيرات حول هذه السياسات. وفي هذا الشأن يقول هاني أبو عاقلة، وهو محلل لبورصات الذهب، إن هناك مخاطر تضخّمية محتملة إذا ما ضَخَّ البنك المركزي سيولة كبيرة بالجنيه لشراء الذهب دون أن يقابلها تدفق معادل من العملات الأجنبية، وهذا قد يؤدي إلى زيادة الكتلة النقدية وارتفاع الأسعار إذا لم يجرِ تعقيم تلك السيولة؛ لذا تتعيّن على المركزي الموازنة بين شراء الذهب وامتصاص السيولة الزائدة عبر أدوات السوق المفتوحة، كطرح شهادات أو بيع عملات صعبة من الاحتياطي لاستقرار العرض النقدي.

وتواجه هذه القرارات تحدياتٍ أمنية أيضاً، إذ لا تزال أطرافٌ نافذة وشبكات إجرامية إقليمية متورطة بقوة في تهريب الذهب عبر حدود السودان المترامية. هذه الجهات ستستمرّ في محاولاتها ما استمرّت الحرب والفوضى الأمنية التي توفر لها غطاءً وحافزاً مالياً ضخماً، لذا فإن فاعلية السياسات الجديدة مرهونة أيضاً بتحسّن البيئة الأمنية عامة في البلاد. ومما يدعو لتفاؤل حذر أن المجتمع الدولي بات أكثر انخراطاً في مساعدة السودان بتتبع حركة ذهبه؛ فقد كشفت تقارير أممية واستقصائية طرق التهريب والجهات الضالعة فيه، ما يزيد الضغط على الدول الإقليمية المتواطئة والمهرّبين الكبار.

Exit mobile version