بقلم: الدكتور فرانسيس مادينق دينق | رثـاء
وودستوك – مدينة نيويورك
الولايات المتحدة الأمريكية
🖊ترجمة وتحرير: دينقديت أيوك
برحيل شخصية بونا ملوال، فقدنا قائدًا وطنيًا ساعدت اسهاماته في تشكيل مصير أُمَّتِنا. بالنسبة لي، رحيله أمرٌ شخصي للغاية. كان بونا شريكي في خدمة بلادنا وشعبنا، إنه أخ عزيز وصديقي المقرب. ما زلتُ أُصارع تصديق حقيقة أنّه رحل ولم يَعُد معنا. وبالرغم من أن هذا هو المصير الذي ينبغي أن يواجهه أي إنسان عندما يحين الوقت المحدد، فإنه لا يُخفف عن وطأة الصدمة أو يُقلل من ثقل وحجم الفقد.
تمتع بونا بشجاعةٍ استثنائيةٍ في مواجهة الخطر. ولم يتردد قط في التعبير عن آرائه بجرأة مهما كانت الظروف. كان صوته قويًا وصادقًا وجرئًا، سواء كان في حديثه الشفوي أو في كتاباته. وقد جعلته مقالاته الغزيرة ومواقفه العامة الشجاعة محاربًا حارب وقاتل باللسان والقلم.
كان بونا وشخصي أندادًا. أخبرني ذات مرة بأن السلطان بنجامين لانق جووك الذي كان متعلمًا، سجل سنة ميلاده كاملًا في ١٩٣٨م بالشهر المحدد واليوم.
لم يتم تدوين تفاصيل ميلادي رسميًا، لكن من خلال ذكريات العائلة؛ تتبعتُ الشهر إلى أغسطس سنة ١٩٣٨م. لكن جوازات سفرنا، اتبعت النظام العام المتبع في السُّودان، حيث كانت تواريخ الميلاد غير مُسجلة في أغلب الأوقات حينئذ، وبالتالي، تم توحيدها وصُممت على أساس تاريخ الأوَّل من شهر يناير، فتم تسجيل تواريخ ميلادنا نحن الاثنان في ١ يناير ١٩٣٨م، وهو التاريخ الرمزي لاستقلال السُّودان عن الحكم الاستعماري.
في إحدى المرات، حين كنا نزور وزارة الخارجية في واشنطن، قدمنا جوازات
سفرنا معًا، فنظرت موظفة الاستقبال إلى مستندات سفرنا وحدقت إلينا، وسألتنا بمرحٍ ما إذا كنا توأمين. فضحكنا وأخبرناها بأن الحكومة في السُّودان أحيانًا تجعل من النَّاس توأمين شأوا أو لم يشاءوا.
كما قال لي بونا، التقينا لأوَّل مرة كأطفال، عندما رافق والده، السلطان مادوت ريينق، الذي كان من أنداد أبينا وصديقه، إلى أبيي لحضور اجتماعٍ يجمع بين القبائل في سنة ١٩٤٥م تقريبًا، وأقاما في منزل عائلتنا خلال تلك الزيارة. إن استذكاري لتلك المناسبة غامض، لكنني أتذكر وجود السلطان وصبي صغير يقيم معنا في ذلك الوقت.
بعد سنوات كثيرة، في ستينيات القرن الماضي، بدأتُ أسمع بالاسم «بونا ملوال» في سياقٍ مختلف جدًا. عُرِفَ كشابٍّ ناشط سياسيًا، ثم أصبح لاحقًا محررًا لجريدة «ذا فيجيلانت/The Vigilant » السُّودانية الجنوبية المؤثرة التي دفعت بقضية الجنوب قُدُّمًا بجرأة. فأصبحت جريدة «فيجلانت» لسان حال لشعبٍ رازح تحت معاناة هائلة وكانت تُوَّثِّقُ وتكشف بشجاعة الفظائع المروعة التي تُرتكب في كل أنحاء «جنوب السُّودان». كلفته شجاعته أن يدفع ثمنًا شخصيًا. تمت مقاضاته بسبب كتاباته، لكن تمت تبرئته في الاستئناف. وبرز لاحقًا كأحد مؤسسي حزب «جبهة الجنوب»، الذي لعب دورًا محوريًا في الدفاع عن قضية السُّودانيين الجنوبيين في حق تقرير المصير.
عَرِفْتُ بونا شخصيًا في سنة ١٩٦٨م. كان وقتها يزور الولايات المتحدة الأمريكية، بصفته نائبًا في البرلمان، حيث قضى بضعة أيَّام في مدينة نيويورك. كنتُ في «نيو هيفن» أُحضِّرُ لنيل درجة الدكتوراه في القانون بجامعة ييل. اتصل بيَّ بونا، فذهبتُ للقائه في نيويورك. في ذلك اللقاء، بدأت علاقتنا التي ستشكل حياة كُلُّ واحدٍ مِنَّا لاحقًا. ثُمَّ زارني لاحقًا في «نيو هيفن»، ومن هناك تعمقت علاقة صداقتنا وتوطدت.
بعد مرور عام، في شهر أغسطس ١٩٦٩م، بأشهر قليلة من استيلاء العقيد جعفر نميري على السلطة في مايو، عدتُ أنا وشقيقي بول (الراحل الدكتور زكريا بول دينق – المترجم) إلى الديار لنبقى إلى جوار والدنا الذي بدأ يحتضر. وعندما وصلنا إلى الخرطوم وأقمنا في فندق، اتصلتُ بأبيل ألير، زميلي السابق في كلية القانون بجامعة الخرطوم، والذي كان آنذاك وزيرًا في حكومة نميري. كان أبيل وبونا شريكين سياسيين وقائدين في حزب جبهة الجنوب. أبلغ أبيل بونا فورًا بوصولنا، فجاء بونا إلينا في الفندق، وأصر على أن نبقى معه في منزله. ومنذ ذلك الوقت، أصبح شريكًا وثيقًا معنا وثابتًا في تقديم الرعاية لوالدنا.
يتبع …
