الهويات الأهلية في السودان: رجعة إلى الأصل أم قفزة في الظلام (3/3)

د. التجاني عبد القادر

لقد لاحظ ابن خلدون قديما أن القبائل العربية البدوية لا يحصل لهم الملك “إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية، أو أثر عظيم من الدين”. (4) وهذه ملاحظة مفيدة في هذا السياق، إذ أن القبيلة في السودان الشمالي لم يكن في مقدورها أن تصبح إطاراً للهوية، ومرجعية للتكتل والتماسك الاجتماعي، لولا ارتباطها (حقيقة أو خيالا) بسلسلة من الآباء/الشيوخ الصالحين (صلاحا يرتبط لا محالة برمزية دينية)، كما أن النخب التي تصعد للقيادة لا تسلس لها القيادة إلا بشيء من الجاذبية التي ترتكز على تلك الرمزية. مما يعنى أن رابطة الدّم وحدها لا تكفي لإحداث التماسك الدّاخلي في القبيلة، وإنما تحتاج القبيلة الى أسطورة، أو الى رمزية دينية، أو الى “طريقة” صوفية حتى يتسنى لها أن تضطلع بدور الإيديولوجيا. ولذلك فقد صار من المألوف في التجربة السودانية أن ترى “العائلة الحاكمة” في القبيلة وهي تسعى جاهدة للاتصال بشيوخ الطرق الصوفية ومخالطتهم، وذلك لكي تتمكن من تعزيز مشروعيتها الأخلاقية بين رعاياها، وتربط امتيازاتها الوراثية ببنية فوقية من الأيديولوجيا المناسبة.
على أن شيخ القبيلة (أو العائلة الحاكمة) لا يستطيع الحفاظ على وضعه الرئاسي باستجلاب الرمزية الدينية وحدها، وإنما يحتاج إلى موارد اقتصادية مستمرة، إذ يتوقع منه دائماً أن يكون، علاوة على واجبه في تسوية النزاعات وحماية الدار، كريماً ومعطاءً، وعلى استعدادٍ مستمر للإنفاق بسخاء. وهذا يعني أن عليه في كل الحالات أن يكون ذا ثروة كبيرة تمكنه من مجابهة تحديات منافسيه، وتوقعات أتباعه، وضغوط الحكومة المركزية عليه. وقد كان شيوخ القبائل يلجئون (منذ العهد السناري) الى تجار القوافل النافذين، مثلما كانوا يلجئون الى قادة التصوف، فاستطاعت هذه الفئات الثلاث أن تنال قبولاً من بقية فئات المجتمع، وأن تهيمن على النظام السياسي. وعندما توطد الحكم الأجنبي على السودان (الحكم التركي ثم البريطاني) تضعضع هذا التحالف الثلاثي قليلاً، وذلك لأن القانون والنظام قد عهد بهما إلى جيوشٍ نظامية، ونشأت أجهزة إدارية (بيروقراطيات) ضخمة، وصارت التجارة والاقتصاد شغل الحكومة الشاغل. ومع كل ذلك، فإن التحالف بين التاجر وزعيم القبيلة وخليفة الطريقة لم يزدَدْ إلا قوة، حتى أن الحكومة الأجنبية ذاتها عادت تستجدى خدماتهم، وسطاءَ ومستقطبين لولاء المواطنين، وصارت تطلق عليهم لقب “الأعيان”. ولقد أنشأت الحكومة التركية وظيفة “شيخ الشيوخ” وأعطت لشاغلها صلاحياتٍ فوق كل الشيوخ الآخرين، وعندما أُلْغِيَ هذا المنصب في عام 1860م استبدل به منصب “ناظر” الذي يقيد بمنطقةٍ بعينها. وصارت رئاسةُ القبيلة منذئذ صنعة سياسية متقنة، تُنَالُ بإقامة العلاقات الوطيدة مع شيوخ الصوفية ومع الحكومة المركزية، حيث يبرز للسطح مرة أخرى تآزر ثلاثي يضم زعيم القبيلة وخليفة الطريقة والحكومة المركزية.
ثم تنامى ذلك التآزر، وتنامت معه أيديولوجية خاصة صار يجسدها تماهى الطريقة في القبيلة (مثل تماهى الطريقة الختمية في قبائل الشايقية والهدندوة، وتماهى الطريقة السمانية في قبائل الجمع والجموعية، وتماهى الطريقة المهدية في قبائل التعايشة والرزيقات والميسيرية والحمر..الخ)، حيث تستحضر الرموزٌ الدينيةٌ والأمجاد التاريخية لتبرير سلطة الزعيم وتثبيت سلطانه. ولا يستبعد في هذه الحالة وقوع نوع من الاستغلال في هذه العلاقة، علاقة القائد والتابع، ولكن وقوعه ليس حتميا؛ إذ أنه في عهد الانفجار المعلوماتي والتواصل الجماهيري لم يعد في مقدور شيخ أن يحتكر المعرفة أو يسيطر على الخطاب كما كانت الأمور سابقاً.
أما حينما نعود الى الحالة الراهنة، والى ظاهرة الزعماء-الثوار الجدد في غرب السودان وشرقه، فسنلاحظ أنهم قد تباعدوا “ظاهريا” عن تنظيماتهم “الأممية” السابقة، ويسعون الآن ليصبحوا “شيوخا”. فكيف استطاعوا الوصول الى مواقع القيادة في مجتمعاتهم المحلية؟ الإجابة تتلخص في كلمة واحدة: “الحرب”. فالحرب المتطاولة بين الحكومة المركزية والأقاليم الطرفية، وما ترتب عليها من معاناة إنسانية وتدمير للبنى الاجتماعية والاقتصادية أوجدت هذه القيادات الثورية، والتي انغمست طوعا أو كرها في الواقع الثوري الجديد الذي توفره حرب الغوريلا التي تفرغوا لها، وتشربوا الثقافة الجديدة التي تفرزها. ولكن حرب الغوريلا لها مطلوبات ولها أهداف: فهي تسعى من حيث أساسها الفلسفي الى إلغاء العقد الاجتماعي القديم، والى تفكيك البنية القبلية والإيديولوجية القديمة، حتى يتمكن الثوار من بلورة عقد اجتماعي جديد، وتصنيع هوية بديلة، وتوليف رموز نضالية ملهمة (على منوال ماو تسى تونج وهوشى وغيفارا وكاسترو). مما يعنى أن يخوض هؤلاء القادة ثلاث معارك في آن واحد: معركة عسكرية ضد المركز، ومعركة فكرية لبناء الأيديولوجيا، ومعركة مع المجتمع المحلى، تفكيكا لبنيته الثقافية-الاجتماعية، وإعادة صياغته ليولد “انسان الثورة الكامل”، ويقود الآخرين نحو “السودان الجديد”! غير أن الدخول في هذه المعارك العميقة، كصناعة ايديولوجيا للثورة، واستيلاد قيادة تملك الرؤية والقدرة والكاريزما، سيكون دخولا في المجهول، وطلبا للمستحيل. أما بدون ذلك فسيكون من الصعب التفريق بين الثوار الحقيقيين وحركات التمرد وعصابات النهب المسلح. ذلك هو المأزق الكئيب الذي جعل هذه القيادات الثورية تنقسم الى فريقين، فريق “واقعي” وآخر “رومانسي”. يسعى الفريق الرومانسي نحو علمانية شاملة للدولة والمجتمع، ويروم إحداث قطيعة تامة مع الهوية العربية الإسلامية، ويضع القواعد والشروط لما ينغى أن يكون عليه السودان (وفقا لإعلان المبادئ الأخير، مارس 2021، الذي وضعه “الحلو” ووقع عليه البرهان)، ويرجو الدعم من الدول المجاورة ومن المجتمع الدولي. أما الفريق الثاني فهو أقرب الى الواقعية السياسية، ويسعى نحو التحول التدريجي من “الثورة التفكيكية” الى التركيب والإصلاح، ومن القطيعة مع التراث الى العودة اليه، ومن هيمنة المركز الى تقوية الريف.
إن كاتب هذه السطور لم تتح له فرصة لحوار فكرى مع هؤلاء القادة الجدد، ولكن متابعتي لمواقفهم الأخيرة، واستماعي لبعض افاداتهم المعلنة، تجعلني أعتقد أن الفريق الواقعي استفاد بعض الدروس من الحرب الطويلة التي خاضها. من تلك الدروس: أن الصلح خير، وأن عملية إعادة بناء المجتمع الأهلي وتطويره خير من تفكيكه، وأن من يريد أن يمثل قيادة حقيقية للريف عليه أن يتصالح مع هوياته الأهلية ويعمل على اصلاحها. كما لابد أن يكون هذا الفريق قد أدرك أن “السلطة المركزية” زائلة لا محالة، وأن المركز لم يعد قادرا على احتكار الخطاب، إذ صار في مقدور الجميع، بفعل الوسائط الإعلامية الجديدة، أن يسمعوا أصواتهم، وأن يجمعوا أطرافهم، وأن ينفذوا مشاريعهم، دون مرور أو استئذان من مؤسسات المركز. لقد أدركوا أن القوة الحقيقة توجد في أسفل الهرم وليس في قمته. وللتدليل على هذا الظن قد تكفي نظرة سريعة لاتفاقية جوبا الموقعة بينه وبين الحكومة الانتقالية في أكتوبر 2020. ستلاحظ أن المفردات المهيمنة هي: الاستعادة، الإقرار، الاعتراف، المراجعة. وستقرأ أن المتفاوضين: اتفقوا على: “استعادة نظام الحكم الإقليمي”، وعلى “الاعتراف بدور الإدارة الأهلية”، وعلى “الإقرار بالحقوق التقليدية في ملكية الأراضي القبلية”. وستجد أن الحكومات الاقليمية قد أعطيت حق: مراجعة العقود الخاصة بالموارد الطبيعية المستخرجة من أراضيها، اصدار تراخيص التنقيب، والاستخراج، والتفاوض على عقود وقسمة الايرادات مع الشركات المستثمرة، وسحب التراخيص. مما يعنى أن هناك رؤية استراتيجية جديدة “للأرض” قد بدأت تتبلور؛ فبدلا من أن تكون مجرد ميدان للقتال ستكون حقلا للنفط ومنجما للذهب. ومن يضع يده عليها سيؤول اليه النصيب الأكبر من السلطة، وسيجد قبولاً شعبياً لأنه يستطيع أن يوزع الخدمات والمنافع على شبكة “المحليات”، ويستقطب مشايخ القبائل وأصحاب المقامات الدينية وأصحاب النفوذ في المركز. وهذه طريقة استطاع من خلالها أبناء بعض العشائر في كثير من البلدان الأفريقية والعربية المجاورة أن يصبحوا زعماء ثم رؤساء لدولهم.
خلاصات:
(1) وبناء على هذا، فيمكن القول بأنه لا توجد الآن “وحدة في الهدف” ولا “وحدة في المصير” بين الحراك القبائلي الراهن، والاتجاه الذي تسير فيه العناصر اليسارية المهيمنة على “قوى الحرية والتغيير”؛ بل يوجد بينهما تناقض أساسي. فحراك القبائل يتجه نحو إحياء تركيبة اجتماعية-سياسية سابقة، والعمل من خلالها لتحقيق مصالح سياسية واقتصادية مباشرة، تتمثل في استعادة نظام الحكم الإقليمي، وملكية الأرض والتحكم في تراخيص التنقيب والاستخراج (النفط والذهب)، ومشاريع الري والطاقة، والطرق والسدود. أما العناصر المهيمنة في “قوى الحرية والتغيير” فلا تهتم الا بأمر ايديولوجي واحد: التصفية والتفكيك. أي استخدام قوة الدولة المركزية لتصفية خصومها الإسلاميين واخراجهم بصورة نهائية من دائرة الفعل السياسي، واستخدام قوة الدولة “لتفكيك” التركيبة الاجتماعية السائدة، ابتداء بتفكيك البنية التحتية المتمثلة في نظام الأسرة والقوانين المتعلقة بها، وانتهاء بالنظام الأهلي بكل تفرعاته وأشكاله. (ولذلك فهي تحرص على الإمساك بوزارتي الشؤون الدينية والتعليم، وتهتف لاتفاقية الحلو-برهان التي تضع الأساس لاستبعاد قيم الدين وأحكامه من الدولة والمجتمع).
(2) وإذا استمر الحال على ما هو عليه الان فان موجة قادمة من المعارك ستنشب بين “التفكيكيين” و”الاحيائيين”؛ أي بين الذين يمسكون بأجهزة “الدولة”، ويعملون على “تفكيك” النظام الاجتماعي واختراقه (مستفيدين مما يتوفر لهم من دعم اقليمي ودولي)، وبين الذين يمسكون “بالأرض”، ويعملون على “إحياء” الهويات الاجتماعية، وإعادة تركيب ما لها من شبكات وعلاقات (مستفيدين مما يذخر به المجتمع المحلى من قيم ثقافية وتجارب حياتية، ومما تذخر به الأرض من ذهب أو نفط أو مياه، وما يمر عبرها من طرق وخطوط امداد).
(3) وبينما تتباعد المسافة بين الثالوث اليساري المهيمن على الحكومة الانتقالية والحراك الأهلي، فإنها تتقاصر من الجهة الأخرى بين الحراك الأهلي والثور الواقعيين، إذ انهما يلتقيان في فكرة أن السلطة تأتى من أسفل الهرم وليس من قمته، مما يعنى أننا قد نصل الى مرحلة “توازن القوى”، فلا يستطيع فصيل واحد أن يستعيد المركز السلطوي القديم ليشكل السودان على صورته.
(4) وبناء على ما تقدم فانا قد نحتاج الى تغيير في نظرتنا القديمة للهويات القبلية. إذ أن بعض التنظيمات الحديثة آخذة في التراجع، بينما تصعد التنظيمات الأهلية وتتطور وتصبح أكثر “حداثة”. لقد كان من المألوف سابقا أن تبحث القبيلة عن حزب تنضوي تحته ليعبر عن مصالحها، أما الآن فقد صارت كل قبيلة تستطيع أن تعبر عن مصالحها وأن تحصل عليها، وإذا تواصلت هذه الظاهرة فليس من المستبعد أن ترى (أحزابا) تبحث عن قبائل لتنضوي تحتها، فهذا عصر يتم فيه “تحديث” التراث، و”توطين” الحداثة.
(5) ويمكن القول أيضاً أن من ليس له قدم راسخ في الأرض، أو تحالف وثيق مع الكيانات المستقرة فيها، سيكون من الخاسرين في السياسة. مما يعنى أن “الثالوث اليساري” المتحكم الآن في مفاصل الدولة سيعمل بجد لقطع الطريق أمام القيادات الواقعية؛ كأن يعطل صدور قانون الحكم الاقليمي (المنصوص عليه في اتفاقية جوبا)، أو ينسف الاتفاقية من أساسها، أو يسلط عليهم حملات من الاعلام المضاد، أو يصدر قانوناً يجرم به الحراك الأهلي، أو يرتكب “حماقة” عسكرية.

Exit mobile version