عبدالناصر سلم حامد
في زمنٍ تفككت فيه مؤسسات الدولة وتحوّلت المدن إلى جبهات، ظل جهاز المخابرات العامة السودانية يعمل بصمتٍ استراتيجي، ممسكًا بخيوط الدولة حين تهاوت أركانها. لم يكن دوره مجرد جمعٍ للمعلومات، بل إدارة حربٍ خفية عنوانها الوعي، وسلاحها العقل، وميدانها بقاء الوطن نفسه.
ففي الحروب الكبرى، لا ينجو الأقوى، بل الأذكى. تلك كانت الحقيقة التي كشفتها تجربة السودان في حربه المعقّدة منذ أبريل 2023، حين سقطت مؤسسات الدولة واحدة تلو الأخرى، وتحوّلت العاصمة إلى خطوط تماسّ، والبلاد إلى خارطة من الجبهات المفتوحة. في تلك اللحظة التي غاب فيها القرار وتعثّرت القيادة، كان هناك عقلٌ واحد لا يزال يفكر: جهاز المخابرات العامة، المؤسسة التي تحوّلت من جهاز تقليدي إلى مركز تفكير وطني، يدير حرب البقاء بعقلٍ استراتيجي لا بردّ فعلٍ فوضوي.
منذ الأيام الأولى للقتال، أدرك الجهاز أن المواجهة ليست فقط بين جيشٍ وميليشيا، بل بين الدولة نفسها والفوضى التي تهدّد وجودها. وبينما كانت القوات المسلحة تتصدى للمعارك المباشرة في الخرطوم ودارفور وكردفان، كانت المخابرات تخوض حربًا موازية — حرب المعلومة ضد العدم. فالعقول الأمنية لا تُقاس بعدد البنادق، بل بقدرتها على تحويل الفوضى إلى معرفة، والمعرفة إلى قرار.
في صمتٍ محسوب، شارك ضباط المخابرات في عمليات الإسناد الميداني، وساهموا في توجيه الضربات الدقيقة عبر الرصد والتحليل وتأمين خطوط الإمداد الحساسة للجيش. كثير من ضباط وحدة العمليات الخاصة – رغم حلها رسميًا في يناير 2020 بعد تمرد محدود داخل الخرطوم – عادوا طوعًا إلى الميدان، مقاتلين إلى جانب القوات المسلحة في الفاشر وأم درمان ونيالا. كانوا يعرفون أن المعركة لم تعد معركة سلطة، بل معركة وجود. وقد وثّقت تقارير ميدانية محلية سقوط عددٍ من منسوبي الجهاز أثناء أداء مهام الرصد والدعم، دون إعلانٍ رسمي لأعدادٍ تفصيلية.
لكن الدور الأعمق للجهاز لم يكن في ميادين القتال المباشر، بل في إدارة هندسة الدولة من وراء الستار. ففي لحظة تلاشى فيها مركز القرار السياسي، أصبح جهاز المخابرات بمثابة “غرفة عمليات وطنية” غير معلنة، تجمع بين التحليل، والرصد، وإدارة المخاطر، واتخاذ القرار تحت الضغط. فحين سقطت مؤسسات التخطيط والإدارة، ظل الجهاز يحتفظ بقدرة فريدة على ربط الأجزاء المتناثرة من الدولة — من الوزارات المدنية المتبقية إلى قيادات الجيش في الميدان — في شبكة واحدة من “الوعي المؤسسي”.
لقد تطوّر دوره من مجرد جهة أمنية إلى عقل تنسيقي متعدد الأبعاد، يتعامل مع المعلومات كأداة إدارة وطنية، لا كسلاح استخباري فقط. فهو يراقب، ويُحلّل، ويقدّر المخاطر، ويُقدّم النصح الاستراتيجي للقيادة العسكرية والسياسية دون أن يظهر في الصورة. في وقتٍ كانت فيه مؤسسات الدولة تعمل بمنطق رد الفعل، حافظ الجهاز على تفكيره بمنطق إدارة الأزمة لا انتظارها. وهذا ما يميّزه كجهازٍ يمتلك “ثقافة البقاء”، أي القدرة على إعادة إنتاج وظائف الدولة في غياب الدولة نفسها.
في بيئة حربٍ متحركة، تحوّلت المعلومة إلى سلاحٍ نوعي. فالجهاز لم يعتمد فقط على المصادر البشرية، بل طوّر آليات رصد متقدمة قائمة على تقنيات المراقبة الميدانية والتحليل الجغرافي وشبكات الإرسال اللاسلكي المحدود، مستفيدًا من خبراته في مكافحة الإرهاب خلال العقدين الماضيين. كان الهدف هو تحويل المعلومة إلى قرار استراتيجي؛ فالمخابرات لا تنتصر عندما تعرف، بل عندما تُحسن استخدام ما تعرفه في الوقت المناسب. ومن هنا اكتسب الجهاز مكانته كـ “العقل المتحكم في الإيقاع”، يُوازن بين المعلومات الواردة من الجبهات والضغوط السياسية والدبلوماسية، ليُبقي قرار الدولة على قيد الحياة في بيئة يسودها الفوضى.
لقد قدّم هذا الأداء نموذجًا لما تسميه أدبيات الأمن بـ “المرونة الاستخبارية”، أي قدرة المؤسسة على العمل داخل بيئة معادية وفاقدة للبنى المؤسسية. وهنا أثبتت المخابرات السودانية أن الدولة لا تبقى بقوتها المادية، بل بذكائها المؤسسي، وبقدرتها على التفكير حين يعجز الجميع عن الفعل.
ولأن الحرب ليست فقط سلاحًا بل سردًا أيضًا، أدرك الجهاز أن السيطرة على المعلومة هي نصف النصر. ففي وقتٍ ملأ فيه الإعلام المضلل الفضاء، عملت المخابرات على مكافحة الشائعات وحماية الوعي العام عبر ما يمكن تسميته بـ “الأمن المعرفي”، أي تحصين المجتمع من الانقسام الذهني والنفسي. فالأمن في زمن الحرب يبدأ من الكلمة قبل الرصاصة، ومن الثقة قبل الطاعة.
اختار الجهاز منذ البداية الحياد المبدئي، لا كوقوفٍ على الهامش، بل كاستراتيجية للبقاء الوطني. في بيئةٍ انقسمت فيها مؤسسات الدولة بين مراكز نفوذ وتيارات متصارعة، حافظت المخابرات على موقعها كحارسٍ للدولة لا كأداةٍ للسلطة. هذا التوازن بين الولاء الوطني والاستقلال المؤسسي جعلها الاستثناء الوحيد في مشهد الانقسام العام. ففي حين انهارت أجهزة أمنية في دولٍ مثل اليمن وسوريا حين ارتبطت بمصالح النظام بدلًا من مصالح الدولة، حافظت المخابرات السودانية على وحدتها لأنها ظلّت “جهاز الدولة”، لا “جهاز النظام”. هذا الفارق هو ما حفظ عقل السودان حين فقد جسده السياسي.
ورغم انشغالها بجبهة الميدان، لم تتجاهل المخابرات الجبهة الإنسانية. فمنذ الأسابيع الأولى للحرب، تولى ضباطها بالتنسيق مع الأمم المتحدة عبر الآلية الوطنية المشتركة تأمين الممرات الإنسانية من الفاشر إلى ود مدني، وساهموا في حماية القوافل الطبية بالتعاون مع سلطات محلية ومنظمات دولية. كانت تلك خطوة تتجاوز مفهوم الأمن التقليدي إلى مفهوم الأمن الإنساني، حيث يصبح الإنسان جزءًا من منظومة الأمان لا مجرد موضوعٍ لها.
من هذا المنظور، طوّر الجهاز مفهومًا داخليًا يعرف بـ “الأمن بالوعي”، يقوم على إشراك المواطن في حماية نفسه ووطنه عبر المعرفة والمعلومة لا عبر الخوف. فالمجتمع الواعي هو خط الدفاع الأول ضد التفكك. ولعلّ هذه المقاربة هي ما أعاد الثقة بين المواطن ومؤسسة كانت تُنظر إليها لسنوات كأداة غامضة. اليوم، باتت المخابرات أقرب إلى مفهوم “الدولة العاقلة” — مؤسسة تفكر وتحمي في آنٍ واحد.
على الصعيد الإقليمي، تمددت مهام الجهاز إلى ما وراء الحدود. فالحرب السودانية خلقت فراغًا أمنيًا خطيرًا على الحدود مع تشاد وليبيا وإفريقيا الوسطى، وأيقظت شبكات تهريب السلاح والذهب والوقود. عبر قنواتٍ غير معلنة، أعاد الجهاز تفعيل شراكاته الاستخبارية وتعاونه الأمني مع أجهزة في دول الجوار مثل مصر وتشاد وإثيوبيا وإريتريا، لتبادل المعلومات ومراقبة التحركات العابرة للحدود، ضمن ما يمكن تسميته بـ “الدبلوماسية الاستخبارية الهادئة”، التي تعتمد على بناء التفاهمات دون ضجيجٍ سياسي، وعلى الحوار المهني بدل الصفقات العلنية.
بفضل هذه المقاربة، نجح السودان في تجنّب العزلة الكاملة رغم انهيار الدولة المركزية. فأعادت المخابرات للسودان موضعه في خارطة الأمن الإقليمي كفاعلٍ لا كفراغ، ومارست ما يمكن تسميته بـ “دبلوماسية الظلّ” — إدارة التوازن الإقليمي حين تغيب الدبلوماسية الرسمية.
ولم يكن ذلك ممكنًا لولا القيادة التي جمعت بين الحزم والعقلانية. فالفريق أول أحمد إبراهيم مفضل، الذي تولى قيادة الجهاز في أواخر عام 2022 خلفًا للفريق جمال عبد المجيد، أدرك أن حماية الوطن تبدأ من داخل العقول لا من وراء المتاريس. وهو يقود اليوم واحدة من أصعب المراحل في تاريخ السودان الحديث، جامعًا بين الرؤية الاستراتيجية والانضباط الميداني. تحت قيادته، لم تعد المخابرات مؤسسة مغلقة، بل عقلًا منفتحًا يتعامل مع الواقع بمعادلة دقيقة: الانضباط في القرار، والمرونة في التنفيذ.
بعد ما يزيد على عامين ونصف من اندلاع الحرب السودانية، لم يعد السؤال عن من يملك السلاح، بل من يملك العقل. وفي خضم هذا الزمن الثقيل الذي تفككت فيه المؤسسات وذابت فيه الحدود بين الدولة والفوضى، أثبتت المخابرات العامة السودانية أنها لم تكن مجرد جهازٍ أمني يعمل في الظل، بل العقل الحارس لفكرة الدولة حين سقط جسدها السياسي والعسكري معًا.
لقد خاضت المخابرات حربها بأدواتٍ غير مرئية — بالوعي والمعلومة والتحليل — في مواجهة فوضى تغذيها الشائعة وسلاحٍ بلا ضابط وتحالفاتٍ متبدلة كل يوم. وحين تعطلت مؤسسات القرار، ظلت المخابرات تمثل “العقل المستمر” الذي حافظ على اتصال ما تبقّى من الدولة بذاتها. كانت تعمل في صمتٍ منهجي، تعيد بناء شبكة القيادة والسيطرة من رماد الانهيار، وتعيد تعريف معنى الأمن الوطني: أن يكون الإنسان هو الهدف، والعقل هو الأداة، والمعلومة هي السلاح.
في زمنٍ انهارت فيه البيروقراطية، وأُفرغت العاصمة من مؤسساتها، وأصبحت الخريطة مقسّمة بين مراكز نفوذ متصارعة، احتفظ جهاز المخابرات بقدرته على التفكير بوصفه ذاكرة الدولة وسجلها العصبي. لقد فهم أن الدولة ليست جغرافيا فقط، بل وعيٌ متراكم، وأن الحرب ليست نهاية الوجود بل اختبار الوعي. لذلك، تصرف بعقلانية نادرة في بيئةٍ يغلب عليها الانفعال، ونجح في إبقاء الخيوط الدقيقة التي تربط الجيش بالقرار، والمجتمع بالثقة، والوطن بالفكرة.
خلال عامين ونصف، تراجعت كثير من المؤسسات أمام الصدمات المتتالية، لكن المخابرات صمدت لأنها بنت شرعيتها على “الفكرة” لا على “السلطة”. فلم تكن مؤسسة تسعى للظهور أو السيطرة، بل عقلًا يعمل من وراء الستار ليحفظ التوازن بين القوى، ويمنع الانهيار الكامل، ويعيد تعريف “الأمن” بوصفه حالة وعي جماعي لا مجرد إجراء قسري.
لقد أثبتت التجربة أن الدولة يمكن أن تُهزم ميدانيًا، لكنها لا تموت ما دام فيها عقلٌ يُفكّر. وفي السودان، كان ذلك العقل هو المخابرات العامة — آخر مؤسسة وطنيّة احتفظت بقدرتها على التفكير حين توقفت بقية المؤسسات عن الفعل. فمن رحم الانقسام خرجت المخابرات أكثر نضجًا ومرونة، ومن قلب الحرب وُلدت فلسفة أمن جديدة عنوانها: “الوعي بديلاً عن الولاء، والعقل بديلاً عن القوة”.
اليوم، بعد أكثر من عامين ونصف على الحرب، يمكن القول إن المخابرات السودانية أصبحت الذاكرة الاستراتيجية للأمة والعقل الذي يعيد تعريف الدولة نفسها. فهي لم تدافع عن نظامٍ أو فئة، بل عن فكرة السودان ذاتها؛ فكرة البقاء رغم التفكك، والفكر رغم الخراب، والعقل رغم الصخب. وحين تتوقف البنادق عن إطلاق النار، سيبقى سجل المخابرات شاهدًا على أن الوعي، لا السلاح، هو من أنقذ ما تبقّى من السودان من السقوط الكامل.
فالحروب لا تدمّر الدول بقدر ما تفضح هشاشتها، والنجاة لا تكون للأقوى، بل للأذكى.
وفي هذا الامتحان التاريخي، أثبتت المخابرات السودانية أنها العقل الذي ظلّ يقظًا حين غفا الجميع، وأن الوعي — مهما حاصرته الفوضى — يظل دائمًا آخر خطوط الدفاع عن فكرة الوطن.
