نوتة من علم الكونكا (12): خرطوم أرباب العقايد

مجدي الجزولى
ودَّعَت القارئةُ المرحوم كارل ماركس، وقد وصل لتوِّه إلى الجزائر في فبراير من العام 1882، والثورة المهديّة تُوطَّد أقدامَها في كردفان للانقضاض على دولة التركية. واستفاد المرحوم ماركس من هذه الزيارة حساسيةً جديدةً نحو مظالم الاستعمار جعلت منه نصيراً للمحمديّين في وجه المستعمِرين. ووَجَد في اجتماع المسلمين من أهل الجزائر شغفاً بالمساواة انشرَحَ له صدرُه:
«شربنا القهوة قبل أن ندخل «حديقة التجارب» في مقهىً عربي، بطبيعة الحال في الهواء الطلق. أعدّ العربي قهوة ممتازة. جلسنا على كنَبة طويلة. وجلس عند طاولة خشنة ثلّةٌ من العرب، مالوا بظهورهم إلى الوراء. وضَع كلٌّ منهم ساقاً على ساق، وتَملَّى في دلَّة القهوة خاصّته؛ فلكلٍّ واحدةٌ مخصوصة، ولعبوا جماعةً الورق. أما أكثر ما لفت نظري في هذا المشهد فكان تنوُّع ملابس هؤلاء العرب، بعضُهم في زيّ فخم، بل حتى ثريّ، والبعض الآخر في قمصان بيضاء من الصوف أو ما كان صوفاً وصار بتقادُم العهد مزعاً مهلهلة. لكن، كلّ هذه الحوادث، الخير منها والشرّ، لا تميِّز، في عين المسلم الحقّ، بين أبناء محمد. لا تتأثّر المساواة التامّة في اجتماعهم بهذه الفروقات. بل لا يقع لهم الوعيُ بهذه الفروقات سوى بتخريب هذه القاعدة؛ قاعدة المساواة. ويَعتبر السياسيون وسطهم، محقّين، هذا الشعور بالمساواة التامّة، إن لم يكن ممارسة المساواة (ليست المساواة في الثروة أو في الموقع، وإنما في الشخصية)، ضماناً للحفاظ على كراهيّتهم للمسيحيين وعدم التنازل عن الأمل في نصر حاسم على الكفّار [ورغم كلّ ذلك، لن تقوم لهم قائمة بغير حركة ثورية]» (خطاب من المرحوم ماركس إلى ابنته لورا لافارغ من الجزائر بتاريخ 13 أبريل 1882 في: كارل ماركس وفردريك إنجلز، الأعمال الكاملة، م 46، ص 241-242، دار نشر لورنس ووشرت، لندن، 1975).
انتبه ماركس إلى لَمْح من مساواة «أسنان المشط»؛ أسنان المشط التي عادَى لأجلها خرطوم كتشنر وأبَاها، وقال عزُّها حركةٌ ثورية، وقد تجد القارئةُ بعض هذه الأسنان في العاصمة تحت خريطة كتشنر.
تستقبل العاصمةُ الخرطوم زائرتَها، على الطريق الصّاعد شرق النيل الذي كان حتى عهدٍ قريبٍ حرَماً للعمليات العسكرية، بعَرْضِ شهادتها على البربرية. فالطريق من قَرِّي حتى مدخل كوبري الحلفاية سكّةٌ ناريّة، تتلاصق على جانبيه الآلات العسكرية المحروقة، الأصلي منها والكيري، تاتشرات بسلاحها الأخرق الموجَّه الآن نحو السماء أو الأرض، وعربات ملّاكي تحوّلت إلى قطع سلاح في حربنا «العبثية»، هذا إلى جانب سلسلة من تانكرات الوقود المحترقة. ومَن دقَّقَت النظرَ ربّما أبصرَت بقايا بشريّةً، طرفاً من عظم أو أثراً من زيّ عسكري أو بوت. ومن أطالَتْ ترى حتى صورةَ «البوستال» الشهيرة تلك، بالخلفية الحمراء، التي كان أسكنَها محاربٌ جيبَه حتى قضى، ثمّ انحلّت مادّة الجسد إلى قارعة طريق النار هذا، وترى صورةَ «والدة» أو مولود جديد أو طفل حدث أو زوجة مع وقف التنفيذ. ولمتحف الشارع هذا رائحةٌ، ليست تلك المعهودة، من خليط الحريق والتخثّر وجيَف الحيوانات، تعلوها نسمة النيل في حضن الأملاك، وخدار قريب. وثمّة رائحة كيميائية نفّاذة، من بارود وجاز وعناصر لا تعرف لها غير محترفة القتال اسماً؛ رائحة من الغرنيت أو الدوشكا أو سواها من أدوات القتل العديدة المعروضة في هذا المتحف، تعقبها «صنّة» في حاسّة الشمّ، فكأنّما يكابد الدماغ ليميّز العنصر الذي يطرق باب مُستقبِلاته فلا يجد له تصنيفاً، عنصر كثيف وفارغ في آن واحد، شَغَل المُستقبِلات التي اعتادت على أصناف الشمّ من الحياة اليومية فتعطَّلت فاعليّتها لبرهة قليلة وتهيّأت له فزَاغ. يُميّز الدماغ هذا الفراغ الحسّي كغياب، علامة الفناء الذي هو موضوع هذا المتحف المفتوح.
يشمل هذا المتحف، ضمن ما يشمل، بثورَ الرّصاص والقذائف، صغيرها وكبيرها، على جدران المباني على الجانبين من الطريق، هنا نقرة ونقرات، وهنالك ثغرة في الحائط تبتلع النور، وعلى الجانب الآخر تشوُّهٌ عظيمٌ وخراب. أزاحت هذه البثورُ والندوبُ الألوانَ من الحيطان، عرَّتها من ثوب البوماستك، لتعرض أحشاءً رماديّة ترابيّة أسمنتيّة وكُسَّاراً من الطوب. يُبهِر هذا الخرابُ المتأمِّلةَ كانفراطٍ تامٍّ لما كان نظاماً، إنتروبي، فكلّ مبنىً يَعرضُ أحشاءَه للعلن، أسلاك وسيخ وأسمنت، وأثاث تداخلت عناصره، حديد مُلتوٍ وخشب محطّم وفرش وقماش مكوّم وبلاستيك فقَد تشكيلَه وعاد خاماً.
بالمقارنة، تتبختر الطبيعة كأعلى درجات النظام، فشجرة الكِتر التي تغزو مربّعات الإنتروبي هذه، حيث كلّ ستة في حتة غير موقعها، تبدو في مقابل هذه «العبثية» أعلى مراحل النظام والتناسق. والكِتر (Acacia mellifera) صنفٌ من السُّنط، فروعه متشابكة كثيفة، ذو أشواك صغيرة كثيفة وصَفَق صغير بيضاوي كثيف أيضاً، ينمو «قدِّر ظروفك»، كدوائر متشابكة ملتصقة بالأرض، أو كعُود قائم متوسّط الطول. ومنه ثمرة بنّية داكنة يحيط بكلّ زمرة منها ظرفٌ أصفر، تشتهيها الأغنام فتعلف منها. وهو نباتٌ شديد البأس، شديد المقاومة للظروف البيئية العسيرة، عِكْلِيت، ينافس غيرَه بكثافة جذوره وانتشارها الأفقيّ تتبع أثر الرطوبة الشحيحة. ومثل هذه «العَكْلَتة» آيةٌ، فمثلما يفعل الكِتر؛ تثقب جذورُ الحياة فراغَ الإنتروبي الحربيّ، فالحائطُ الذي انهدّ بالقذيفة يسند بعُسر بابَ فرن تفوح منه في شارع الجيلي رائحة الخبز الطازج، والمئذنةُ التي انقطعت عنها كهرباء الميكروفونات يَجْهَد مؤذِّنُها في الدعوة إلى الصلاة بصوته العاري، والشارع الذي انسدَّ بحديد العربات المحروقة انفتَحَ بتعاضُد العضلات البشرية.
تخترق قوى الحياة «صَنّةَ» الفناء تلك وتزيحها، والزارعنا غير الله اليجي يقلعنا.
لا تقوى الخرطوم الكتشنرية، خرطوم الحيكومة، على هذه «العَكْلَتة» إلا بإرادة موظَّفها الغائب، لذا سكنت حطامَها الغزير تلك «الصّنّة»، تصطدم بها زائرة الخرطوم التي تعبر الكوبري عبر النهر من بقعة أم درمان كحائطٍ لَبِس قبّعة الإخفاء؛ حائط لا يمكن رؤيته. و«صَنّة» خرطوم كتشنر عارمة الفراغ؛ فراغ لا يجرحه سوى نداء أفراد القوات العسكرية لبعضهم البعض، أو رنّات هواتفهم النقّالة، حتى يُخيَّل للزائرة المتوجّسة أنها تسمع صوت نموّ الكِتر يغزو بنظامه إنتروبي الأسمنت والطوب والزجاج والحديد والألمنيوم والخشب والزلط وعناصر أخرى من متاع الفانية.
كلّ هذا الحطام، من وجهة نظر الكِتر، فراغٌ مفتوحٌ للغزو. ينمو الكِتر ويتوسَّع بين شقوق الزلط المفتوح، وعبر تشوّهات المباني وحطامها، ويتسلّق الحيطان، ويحيط بالزجاج المهشّم، يَنبُت كشيءٍ من حتّى، من كلِّ فصِّ تربةٍ رطبٍ، يسيطر الكِتر حيث غاب البشر.
لا يَقدِر على لَجْم الكِتر في هذا الإنتروبي سوى التربال. وتطمئنّ زائرة الخرطوم الكتشنرية ما إن تفوز بنظرة إلى رجلٍ أبديّ، كأنه هو هو، لا يتبدّل ولا يتحوّل، عند جرف المقرن، ينظّف الأرض لينمو الخدار، لا هو بالقريب تعرف له ملامح وشبهاً، ولا هو بالبعيد فتغفله بالكلّية؛ رجلٌ تقرفص عند الجرف في عرّاقي أبيض وسروال، بيده آلةٌ أولية، تاريخ هذه اللقطة عام 2025، لكنها هي هي عام 2020 وعام 1990 وعام 1970 وعام 1950 وعام 1930، وعَبْر ستة آلاف عام من الحياة على شاطئ النيل السعيد، فبأيِّ آلاء ربّكما تكذّبان؟
تُقابل زائرةُ الخرطوم «عَكْلتة» الكِتر في هيئةٍ بشريةٍ متى ما سَلخت خريطةَ الخرطوم الكتشنرية بمربّعاتها وصناديقها التي انهدّت بالإنتروبي الحربيّ، وكشفت عن خريطةٍ أقدم للاستيطان البشري سبَق بها الأهلُ الحكومةَ الحديثة. نبتت الحياة جِنْحَاتٍ في كلِّ حيٍّ لأهله، في «القُرَى» التي سبقت الخرطوم الكتشنرية على الجغرافيا والتاريخ: في العاصمة القديمة حلفاية الملوك، وفي بُرِّي، وفي توتي، وفي جمهورية الكلاكلة الشاسعة، في الرِّميلة، وفي الشجرة، وبطبيعة الحال في سلسلة القُرى والبَلدات التي يَعبُرها داخلُ الخرطوم وخارجُها، بموازاة النهر والنهرين، بعبارةٍ أخرى؛ حيثما كان للأرضِ أهلٌ.
وتجد الزائرةُ أبلغَ آيات هذه «العَكْلَتة» في بُرِّي؛ جارة المعسكر الحربي. جدَّد أهل بُرِّي وأحبابها تحت الضرورة حياةَ آبارٍ أقدم عهداً من مواسير الخرطوم الكتشنرية وأوفى عهداً، جمعوا عبر شبكة تآزُر عابرة للقارّات ما يَلزم لبعثها بالطاقة الشمسية، فجرى ماؤها زلالاً، لا إبرة لا فِصَادة، بل سُترة. وحي بُرِّي أربعة براري، كانت قرى منفصلة فاتصلت: بُرّي المَحَس، وبُرِّي الدَّرَايْسَة، وبُرِّي أبو حشيش، إلى جانب بُرِّي اللّامَاب. أقدمُها في الأغلب بُرِّي المَحَس التي تعود نشأتها إلى النصف الثاني من القرن السادس عشر. وكانت جماعات من المحس وفدت إلى الخرطوم أول القرن السادس عشر واستوطنت الخُوجَلاب والحلفاية وجزيرة توتي، ومنها إلى البرّ الذي صار بعضُه قرى بُرّي. وكان بين المنتقّلين من توتي إلى البرّ، في حوالي 1691 الشيخ أرباب العقايد الذي نشأت على يديه قرية مأهولة، كما نشأت حلّة خوجلي وحلّة حمد على يدَي تلميذيه الشيخين خوجلي عبد الرحمن وحمد ود أم مريوم، وهُما من أهل توتي أيضاً. يذكر كاتب الشّونة أنّ الشيخ أرباب العقايد ذاع صيته حتى بلغ سنّار العاصمة، واستدعاه سلطانُها لزيارته، فترك خليفةً له في الخرطوم ابنَه عليّ، ووفد إلى السلطان فمات في سنّار ودُفِن فيها. ولو مات في الخرطوم لربّما عجَّل ذلك بعمارها العضوي، لَقَامَت له فيها عندئذ قبةٌ ومَزارٌ كما كان الأمر مع حلة خوجلي وحلة حمد. لكنْ لم تَقَع هذه البرَكة للخرطوم التي أباها المهدي وشادها كتشنر
“