نساء من الأمة يصنعن التاريخ: من ممالك النوبة إلى لؤلؤة الخاطر

عبدالعزيز يعقوب
(١)
لم تكن المرأة العربية يومًا غائبة عن ساحات الفعل والتأثير، بل وقفت إلى جانب الرجال في مفاصل التاريخ الكبرى، سياسيًا وفكريًا، وحتى في ميادين الحرب. لم تكن مجرد ظلّ أعوج، بل كانت صوتًا وموقفًا وشريكًا حقيقيًا في صناعة المستقبل والتحولات.
ومن بين تلك الأسماء التي نقشها التاريخ، تبرز هند بنت عتبة، المرأة القرشية التي عُرفت بحدة شخصيتها، وجرأتها، ووضوح موقفها، سواء في الجاهلية أو في الإسلام.
اشتهرت هند في بداياتها بعداوتها وخصومتها الشديدة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم والمسلمين، لا سيما بعد مقتل والدها عتبة، وابنها حنظلة، وعمها شيبة في معركة بدر. غير أن ما يجعلها شخصية عظيمة، ليس حضورها في لحظة العداء، بل جرأتها في المراجعة، وصدقها في التحول. بعد فتح مكة، أعلنت إسلامها وقالت للنبي كلماتها الخالدة: “يا رسول الله، ما كان على الأرض أهل خباء أحبّ إليّ أن يُذلوا من أهل خبائك، فما أصبح اليوم أهل خباء أحبّ إليّ أن يُعزوا من أهل خبائك.”
لقد مثّلت هند نموذجًا للمرأة التي تملك شجاعة الاعتراف، وقوة التغيير، وهي صفات نفتقدها كثيرًا في زمنٍ كثرت فيه المكابرة، وقلّت فيه المراجعة والنقد الذاتي.
(٢)
وكما في التاريخ العربي، فإن المرأة السودانية كانت دومًا شريكة في صناعة الوعي والنضال، منذ أزمنة الممالك القديمة وحتى ساحات السياسة والمجتمع المعاصر.
• الملكة أماني ريناس، قائدة مملكة مروي، واجهت الإمبراطورية الرومانية، وقادت المقاومة ببسالة. ويُروى أنها أهدت رؤوس جنود الرومان إلى الإمبراطور أغسطس في سلال من سعف النخيل.
• الملكة أماني شاخيتي، التي حكمت مملكة كوش، وقادت جيوشها ضد الإمبراطورية الرومانية. وقد رسّخت مفاهيم الحكم المستقر، والتنمية، والعمارة، وقادت بلادها بحكمة في واحدة من أكثر الفترات حساسية.
• في القرن العشرين، ظهرت الدكتورة خالدة زاهر والدكتورة روزي سركيسيان، كأول طبيبتين سودانيتين تتخرجان من كلية كتشنر الطبية في عام 1952، فاتحتين الباب أمام أجيال من النساء في مجالات الطب والعلم.
• ولا تُذكر المرأة السودانية دون ذكر فاطمة أحمد إبراهيم، أول نائبة برلمانية في السودان والعالم العربي، ود سعاد الفاتح وغيرهم من النساء الائي صدحت بالحق في وجه الديكتاتورية بأصواتهن وأعمالهن ، وكن رائدات في النهضة و الدفاع عن حقوق المرأة.
(٣)
أما لؤلؤة الخاطر، فهي نبض إنساني في زمن الجفاف العاطفي، وقد أثبتت أن النبل ليس حكرًا على الماضي.
الوزيرة القطرية التي عبّرت عن تعاطف صادق وعميق مع مأساة السودان في أقسى محنه، فكانت صوتًا عربيًا نادرًا وسط صمتٍ حائر، خائر، ثقيل، مهزوم. وكانت موقفًا إنسانيًا نقيًا بقلب سليم، وسط حسابات السياسة الباردة.
في تصريحاتها، لم تكتفِ بلغة الدبلوماسية المجردة، بل حملت وجع الشعب السوداني، وتحدثت عن الإنسان السوداني كقضية، لا كأرقام.
وموقف كهذا لا يصدر إلا من قلب حيّ، ونفسٍ تشربت بقيم العدل، والرحمة، والمحبة.
يكفي السودانيين قلبٌ واحدٌ تعلو فيه قيم الجمال، والخير، والحق، والشجاعة، وسط ملايين القلوب الواجفة الراجفة ، التي تنبض بالخوف، والخور، والخيانة، وبعضها — للأسف — يستمتع بالموت والخراب والدمار.
من هند بنت عتبة التي راجعت ذاتها وانتصرت للحق، إلى أماني ريناس التي وقفت في وجه الإمبراطوريات، ومن خالدة وفاطمة وسعاد اللواتي اقتحمن أسوار التعليم والسياسة، إلى لؤلؤة الخاطر التي اختارت أن تكون مع الإنسان لا مع السلاح والبطش والقهر— كل هؤلاء النساء يشكلن خيوطاً ذهبية في نسيج هذه الأمة.
إنهن برهان حيّ على أن سيرة المرأة متّصلة ومتواصلة، وأنها تملك التأثير حين تملك الوعي والإرادة. فهي تصنع التاريخ، وتعيد للكرامة معناها، وللأمل ملامحه، وللبطولة بريقها المتجدد.