من جريمة حرب إلى جريمة قتل: قراءة قانونية لهجمات الدعم السريع على المدنيين

د. عبدالناصر سلم حامد
منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، برز نمط واضح من استهداف المدنيين والبنية التحتية المدنية. لكن بداية عام 2025 مثّلت منعطفًا أخطر، مع تصاعد استخدام قوات الدعم السريع للطائرات المسيّرة في تنفيذ ضربات دقيقة ضد أهداف خالية تمامًا من الطابع العسكري. الحرب لم تعد تدار في الجبهات فقط، بل امتدت إلى غرف الطوارئ، محطات الكهرباء، والمساجد. المدنيون باتوا أهدافًا مباشرة لسلاح يُفترض أن يكون ذكيًا، لكنه يُستخدم الآن خارج أي ضوابط قانونية أو أخلاقية.
في 24 يناير، استهدفت طائرة مسيّرة مستشفى السعودي للأمومة بمدينة الفاشر، ما أسفر عن مقتل أكثر من 70 شخصًا، أغلبهم نساء وأطفال. كانت ضربة مباشرة لقسم الطوارئ، وقعت في وضح النهار، دون اشتباك أو نشاط عسكري في المنطقة. وصف أحد الأطباء الناجين المشهد قائلًا: “تحولت غرفة العمليات إلى حفرة. لم نكن نتصور أن مستشفى ولادة سيكون هدفًا عسكريًا”. لم يكن هذا الهجوم استثناءً. بعد أقل من أسبوعين، استهدفت مسيّرات محطة كهرباء مروي، أعقبها هجوم آخر على محطة الشوك، ما أدى إلى حرمان ثلاث ولايات من الكهرباء والماء. أما الضربة التي مثّلت ذروة التصعيد الرمزي، فكانت في 23 مارس، حين قُصف مسجد الرضوان في حي كوكو بالعاصمة الخرطوم أثناء صلاة العشاء، وسقط 11 قتيلًا. لا وجود لتمركز عسكري، لا إطلاق نار، فقط مصلون ومدنيون.
تُظهر هذه الهجمات أن الدعم السريع لا يستخدم المسيّرات فقط كوسيلة قتال، بل كسلاح للعقاب الجماعي، ورسالة سياسية. بعد أن خسر مناطق عديدة، لجأ إلى المسيّرات لضرب المناطق التي انسحب منها، كنوع من الانتقام وكسر الاستقرار في المناطق الخاضعة للجيش. الهدف سياسي بقدر ما هو عسكري: إثبات أن لا منطقة آمنة، وأن يد الدعم السريع قادرة على الوصول حتى إلى حضانة أو جناح ولادة.
القانون الدولي لا يترك مجالًا للبس في تصنيف هذه الأفعال. المادة 52 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف تؤكد حماية الأعيان المدنية ما لم تُستخدم في أعمال قتالية مباشرة. المادة 54 تحظر استهداف الموارد الأساسية لبقاء السكان. أما المادة 8 من نظام روما الأساسي فتصنف استهداف المستشفيات ودور العبادة كجرائم حرب، إذا كانت متعمدة. المادة 28 من النظام ذاته تُحمّل القادة المسؤولية الجنائية إن لم يمنعوا مرؤوسيهم من ارتكاب هذه الجرائم أو تقاعسوا عن المحاسبة.
ولا تقتصر هذه الانتهاكات على كونها “جرائم حرب” من منظور تقني فقط، بل هي أيضًا جرائم قتل عمد، بالنظر إلى طبيعة الأهداف المستهدفة، وتوقيت الضربات، والطابع المدني الصريح للضحايا. القانون الجنائي الدولي لا يفرّق بين سلاح تقليدي أو مسيّرة، بل ينظر إلى القصد، والنتيجة، والسياق. فحين تُطلق طائرة نحو مستشفى أو مسجد أو محطة خدمات دون أي ضرورة عسكرية، تصبح النية الإجرامية واضحة. ووفقًا لمبدأ “القصد الإجرامي العام والخاص (mens rea)”، فإن تكرار هذه الأفعال في أماكن وأزمنة مختلفة يؤكد أن ما يحدث ليس خروقات فردية، بل سياسة قتل ممنهجة. إنها جرائم قتل جماعي ترتكب عن وعي، وتنطبق عليها شروط الملاحقة الفردية في المحاكم الدولية والوطنية، بما في ذلك عبر الولاية القضائية العالمية.
لكن المفارقة أن الجرائم أوضح من أن تُنكر، بينما المحاسبة غائبة تمامًا. لا محكمة جنائية تحركت، ولا لجان تقصٍ فُعّلت، ولا ضغط دولي منظّم. التقارير تُكتب، والمجتمع الدولي يعبّر عن “القلق”، فيما المسيّرات تواصل الطيران والضرب. هذا الصمت لم يعد يُقرأ كحياد، بل يُفهم بوضوح كضوء أخضر لاستمرار الجريمة.
وما يزيد خطورة هذا النمط أنه لا يهدد السودان وحده. تطبيع استهداف المدنيين بالمسيّرات قد يتحول إلى نموذج متكرر في النزاعات القادمة. من ليبيا إلى اليمن، من أوكرانيا إلى غزة، ما يُرتكب اليوم في الفاشر قد يُستنسخ غدًا فوق مدرسة أو سوق شعبي. فحين يفلت الفاعلون من العقاب، يصبح القتل قابلًا للتكرار.
ما يحدث في السودان الآن ليس فقط مأساة إنسانية، بل لحظة اختبار مصيري للقانون الدولي الإنساني ومصداقية المنظومة الدولية برمتها. المطلوب اليوم ليس بيانات إدانة جديدة، بل تحرك عملي وفاعل. يجب على الأمم المتحدة، وعلى رأسها مجلس الأمن، أن تتحمل مسؤولياتها القانونية والإنسانية، وأن تُطلق فورًا آلية دولية مستقلة للتحقيق في هذه الجرائم، ومحاسبة المسؤولين عنها، وتوفير الحماية للمدنيين والبنية التحتية المدنية التي أصبحت أهدافًا مباشرة.
الصمت لم يعد مقبولًا، والتأجيل يعني المزيد من الدماء. استمرار هذه الجرائم دون رد حازم يعمّق شعور الضحايا بأن القانون لا يُطبّق إلا بشكل انتقائي، ويعطي الفاعلين شعورًا بالحصانة الكاملة. يجب أن تُستخدم كل الأدوات المتاحة – من الإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية، إلى فرض العقوبات الفردية، إلى إرسال بعثات مراقبة وتوثيق – لوقف هذا الانحدار الفاضح في قواعد النزاع.
المسيّرات التي تقصف مستشفى اليوم قد تقصف حضانة غدًا، وإن لم يكن هناك خط أحمر واضح تضعه الأمم المتحدة الآن، فستُمحى الفروق بين الحرب والإبادة، بين السياسة والجريمة.
فهل تتحرك الأمم المتحدة قبل أن تصبح هذه الجرائم مجرد سابقة جديدة تُضاف إلى سجل الإفلات من العقاب.