رأي

من الإحباط إلى النهضة… حين تمسك الأخلاق بيد الوطن لمن يزرعون اليأس.. الأخلاق ترياق الإحباط.

 عبدالعزيز يعقوب 
الإحباط لا يُسقِط الأمم… إنما يُسقطها موت الرجاء في صدور أبنائها.
حين يخفت الأمل، ويضيق الصدر، وتثقل الخطى، تتسلّل إلى القلوب تلك الهمسة الغادرة: “لا فائدة… لا امل …لا مخرج.”
لكن القنوط من رحمة الله ليس مجرّد يأس، بل جريمة خفيّة ضد الروح، وانسحاب خاسر من معركة الحياة.
وما السقوط إلا أن نكفّ عن المحاولة، أن نقبل الهزيمة ونُدير ظهورنا للنهوض، كأنّنا خُلقنا للتراب لا للسماء.
وإذا أرادت أمة أن تنهض من بين الرماد، فعليها أن تبحث عن مرآتها في أعماقها، لا في وجوه الآخرين.
فالنهضة لا تُستورد، ولا تُفرض، بل تُزرع في القلوب أولًا… قلوبٍ تعرف طريقها إلى مكارم الأخلاق.
قال رسول الله ﷺ: “إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق.”
لم يقل: لأبني ملكاً، أو لأُحكم باسم السماء، بل لأُحيي الخُلق في الناس، لأنّ الخُلق هو البذرة، وما سواه ثمر.

فما هي الأخلاق؟
ليست خُطبًا ولا شعارات، بل دمٌ يسري في شرايين المجتمع الحي.

الأخلاق هي العدل:
أن لا يُظلَم صغيرٌ لفقره، ولا يُنجّى غنيٌّ لنسبه، وأن تُوزَّع الفرص كما تُوزَّع الأنفاس… لكل إنسان حقه في الحياة.

الأخلاق هي الأمانة:
أن نصون ما أُودع في أعناقنا، من مالٍ عام، أو سرٍّ، أو وعدٍ، أو وطنٍ بأكمله.

الأخلاق هي الإخلاص:
أن نغرس كأنّنا لن نحصد، ونبني كأننا لن نسكن، ونعمل كما لو أنّ الله ينظر إلينا من خلف كل نافذة.

الأخلاق هي الرحمة:
أن نحسّ بأنين اليتيم، وبُكاء الأم الثكلى، وأن نُمسك عن قسوة اللسان كما نمسك عن سفك الدم.

الأخلاق هي الحياء:
حياءٌ يُنبت الطُهر في العين، والعفة في اليد، والنُبل في القرار.

الأخلاق هي الإنصاف:
أن نقول الحق ولو على أنفسنا، وأن لا تُملي علينا العصبيات ميزان العدل.

الأخلاق هي احترام الوقت:
فما خُلق النهار عبثًا، ولا الليل ممرًا للفراغ… والزمنُ هو الحياة.

الأخلاق هي حفظ اللسان:
كلمة ترفع أمة، وأخرى تَسفك دمًا… فاحذر أن تكون في فمك نارٌ وأنت تظنها حرفًا.

الأخلاق هي النظافة وإصحاح البيئة :
نظافة الثوب، والحي، والفكرة، والنية… فكل ما يَجمُل ظاهرًا لا بد أن يصدر عن باطنٍ طاهر.

الأخلاق هي صلة الرحم:
أن لا نترك أرحامنا تتآكل بين خلافات السياسة أو وساوس الدنيا، وأن نبني جسور المحبة فوق أنهار الجفاء.

الأخلاق هي الشورى:
أن لا يُستبدّ بالرأي، ولا يُقصى صوت… فالرأي الواحد عَرجٌ في طريق الأمم.

الأخلاق هي قبول الاختلاف:
أن نرى في التعدد ثراءً لا تهديدًا، وأن نُخالف برحمة، ونُجادل بعقل، وننصرف بلا ضغينة.

الأخلاق هي الثقة:
أن لا نكذب، ولا نُخاتل، ولا نُخلف… لأنّ المجتمعات لا تنهار فجأة، بل حين تفقد الثقة بين أهلها.

الأخلاق هي ألا نخون:
لا وعدًا، ولا وطنًا، ولا إنسانًا استأمَنَنا على قلبه أو على خبزه.

الأخلاق هي التواضع:
أن لا يعلو المرء على غيره مهما بلغ، وأن يُصغي قبل أن يحكم، ويعترف بالفضل لغيره كما يعترف به لنفسه.

الأخلاق هي الصبر:
أن نصبر على البناء كما نصبر على الجراح، وأن نُدرك أنّ النهضات لا تُقطف في مواسم العجلة، بل تُثمر حين يثبت أصحابها.

الأخلاق هي الإيثار:
أن نقدّم غيرنا في زمن الأنانية، ونبني لغيرنا كما نبني لأنفسنا… فالمجتمعات التي يتقاسم أبناؤها الخبز والهم، يتقاسمون النهضة أيضًا.

الأخلاق هي المروءة:
أن نغيث الملهوف، وننصر المظلوم، ونرد الغائب، ونحفظ الكرامة ولو لم تكن لنا مصلحة.
فالمروءة لا تُدرّس في المدارس، لكنها تصنع الأمم العظيمة.

الأخلاق هي الوفاء:
أن لا ننسى من مدّ لنا يدًا، وأن نرد الجميل، ونفي بالعهد ولو غاب أصحابه.

الأخلاق هي العدل مع النفس:
أن نحاسب أنفسنا قبل أن نُحاسب غيرنا، ونعترف بتقصيرنا كما نُدين تقصير الآخرين.

الأخلاق هي الصدق مع التاريخ:
أن لا نُجمّل الماضي، ولا نزوّر الحاضر، ولا نُخدع بأمجاد وهمية… فالأمم التي لا تصارح نفسها، لا تُداوي علّاتها.

الأخلاق هي القتال بشرف:
أن لا نغدر في المعركة، ولا نمثّل بالجثث، ولا نقتل أسيرًا، ولا شيخًا، ولا امرأة، ولا طفلًا.
فمن لا يعرف الرحمة في الحرب، لا يعرف معنى الوطن في السلم.
وليس من البطولة أن تُبيد، بل أن تكفّ يدك حين تغلب، وتُبقي للإنسانية حظّها حتى في زمن الرصاص.

حين تنطفئ الأخلاق، تنطفئ الأمة، ولو ازدحمت مساجدها وشوارعها ومواكبها.
وحين تعود، تعود الأمة تمشي بين الأمم مرفوعة الهامة، مطمئنة الخطوة.
لقد أثبت التاريخ أن الأمم لا تنهض بالحديد وحده، بل بالأخلاق التي تُمسك بالمطرقة قبل أن تضرب.
فاليابان، بعد أن خرجت من رماد الحرب، أعادت بناء إنسانها قبل بنيانها، حين جعلت من الانضباط والاحترام والصدق أعمدة لا تتزعزع.
وألمانيا، التي ذاقت مرارة الانهيار، عادت إلى الصدارة لا بخطاب الكراهية، بل بقيمة العمل، وقدسية الوقت، ومحاسبة النفس قبل الخصم.
ورواندا، التي كادت تُفنى في جحيم الفتنة، وجدت طريقها عبر المصالحة والعدالة والصفح المدروس.

ليست الأخلاق رفاهية روحية… إنها وقود النهضة، وعصب الدولة، وروح الشعوب.
وإن أمةً تعود إلى الأخلاق، لا بد أن تعود إلى الحياة.
لأنّ الأمم لا تُبنى بالمراسم، بل بالمكارم.
ولا تُصان بالحُرّاس، بل بالأخيار.
ولا تُخلّد بالأنظمة، بل بالأخلاق التي تجعل كل فرد حارسًا لضميره، وأمينًا على تراب بلاده.
وقد لخّص الفيلسوف الإنجليزي جون لوك ذلك بقوله:
“الأخلاق هي، في كل شيء، أساس المجتمع. فإذا فسدت الأخلاق، سقط كل شيء.”
فإذا أردنا أن نرفع الوطن، فلنرفعه أولًا في نفوسنا، بخُلقٍ لا ينهار، وإن انهارت المدن.
فالنهضة تبدأ من الداخل… من ضمير حي، ينهض حين ينام الآخرون، ويُنقذ حين ييأس الجميع.
فالأخلاق ليست نهاية الطريق… بل بدايته.
هي الترياق الذي يبدأ به البناء بعد كل حرب،
وهي اليد التي تزرع حين تتوقف المدافع، وتُداوي حين تصمت الصواريخ.
ومن لا أخلاق له بعد الحرب، لا يقدر أن يُعمّر وطنًا، ولا أن يُنقذ شعبًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى