مؤتمر لندن حول السودان – الجزء الأول عندما يعتلي رعاة الحرب المنصّة… ويُكمّم صوت المدافعين عن السيادة

بقلم صباح المكي
لاهاي: حين وقف السودان وحيدًا دفاعًا عن العدالة
في أبريل 2025، سطّر السودان لحظة تاريخية وسط أهوال حرب مدمّرة يغديها الخارج. لم يمثل أمام محكمة العدل الدولية كمتهم، بل كدولة ذات سيادة تسعى لاستخدام القانون الدولي في أرفع صوره: تسمية المعتدي والمطالبة بالعدالة.
تقدّم السودان بدعوى رسمية تتهم الإمارات العربية المتحدة بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، وذلك من خلال دعمها المالي والعسكري والسياسي لقوات الدعم السريع، الميليشيا المسؤولة عن مجازر ذات طابع عرقي في دارفور، وتدمير الخرطوم، وارتكاب مذابح بحق المدنيين من الغرب إلى وسط البلاد.
استند السودان في دعواه إلى أدلة قوية شملت صورًا فضائية، وتقارير ميدانية، وشهادات صادمة من ناجين. لقد فعل ما لم يجرؤ عليه كثيرون: واجه القوة بالقانون، لا بالشعارات. لم تكن القضية مجرد ملف قانوني، بل كانت فعل تحدٍ وطني في وجه التجاهل الدولي.
ففي وقت كانت فيه البلاد محاصرة، لجأت إلى أدوات القانون الدولي، مطالبة بمحاسبة الجاني والداعم للإبادة. لكن بينما كانت الخرطوم تناضل من أجل السيادة في أروقة المحكمة، كانت مسرحية أخرى تُعد… لا لنصرة العدالة، بل لدفنها.
قمة عن السودان… دون السودان
بعد خمسة أيام فقط من تقديم السودان دعواه أمام المحكمة، استضافت بريطانيا ما أطلقت عليه “مؤتمر لندن حول السودان”، في 15 أبريل 2025. قُدم الحدث كقمة إنسانية وسياسية، برعاية فرنسية-ألمانية-أممية، وبمشاركة فعالة من الولايات المتحدة، النرويج، والإمارات.
لكن الغائب الأكبر عن الطاولة كان السودان نفسه. الحكومة الشرعية، التي تقاتل ميليشيا الدعم السريع المدعومة من الإمارات، تم استبعادها بالكامل. وفي تصريح نُشر بموقع ميدل أيست آي بتاريخ 7 أبريل 2025، أدان وزير الخارجية السوداني، علي يوسف الشريف، هذه الخطوة ووصفها بأنها “غير مبررة ومغرضة سياسيًا”، محذرًا من أنها تقوض السيادة السودانية وتمنح خصومها شرعية مصطنعة.
وبالفعل، ما إن افتتحت القمة، حتى أعلن قائد الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، عن حكومة موازية، مستغلًا الفراغ السياسي الذي صنعه الغرب بيديه.
وهكذا، بينما مُنع ممثلو السودان من حضور قمة تُعقد باسمهم، كانت الإمارات — المتهمة رسميًا بالمشاركة في جريمة إبادة — تُكرّم كمانح إنساني. المفارقة لم تكن فقط فادحة، بل فاحشة. مؤتمر للسلام في السودان يُعقد دون السودان، بينما أحد المساهمين في دمار البلاد يُمنح منصة وشرعية دولية.
الدور البريطاني: من وسيط إلى متواطئ
كممثلة رسمية لملف السودان في مجلس الأمن، تملك بريطانيا قدرة فريدة على صياغة الأجندة، ومسودات القرارات، وتوجيه الاستجابة الدولية. وكان من المتوقع منها، إنصافًا لدورها، أن تتحلى بالحياد والشجاعة.
لكن حين اختار السودان أن يلجأ للعدالة، اختارت لندن الصمت… والخذلان.
في تقرير نُشر بموقع الميادين إنجليزي. بتاريخ 30 أبريل 2024 بعنوان “مجلس الأمن يؤجل شكوى السودان ضد الإمارات بطلب من بريطانيا”، كُشف أن لندن ضغطت مباشرة لتأجيل النظر في شكوى السودان ضد الإمارات، ما أدى إلى طمس واحد من أخطر الاتهامات القانونية في تاريخ القضايا الدولية الحديثة حول التواطؤ في الإبادة.
وفي 24 يونيو 2024، نشرت صحيفة الغارديان تحقيقًا بعنوان: “بريطانيا ‘سعت لإسكات الانتقادات’ ضد دور الإمارات في تسليح السودان”، كشفت فيه كيف ضغط دبلوماسيون بريطانيون على نظرائهم الأفارقة لتخفيف لهجتهم تجاه أبوظبي، ولمنع إثارة أي نقاش حول شحنات الأسلحة الموجهة للدعم السريع. وقد أكّد المحامي الدولي يوناه دايموند هذه المعطيات خلال جلسات في أديس أبابا.
وعندما قدّم السودان قضيته أمام المحكمة، مدعومًا بأدلة جنائية ونتائج صادرة عن الأمم المتحدة، لم تنبس بريطانيا ببنت شفة. لم تناقش الملف في مجلس الأمن، ولم تطالب بتحقيق دولي، وتجنبت ذكر الإمارات في قرارها بشأن حصار الفاشر، رغم توفّر الأدلة القاطعة عن تورطها في تسليح الميليشيا.
لم تلعب لندن دور الوسيط المحايد. بل لعبت دور الواقي السياسي لحليفها الخليجي. وبذلك، خانت السودان، وخانت مبادئ القانون الدولي التي تدّعي الدفاع عنها. لم تكن هذه دبلوماسية، بل تواطؤًا صارخًا.
تقرير أممي طُمر لحماية المتهمين
في نفس يوم انعقاد مؤتمر لندن، نشرت صحيفة الغارديان تحقيقًا يكشف مضمون تقرير سري للجنة خبراء الأمم المتحدة، بعنوان: “تقرير مسرّب يثير مخاوف جديدة بشأن دور الإمارات في حرب السودان”.
التقرير المقدم إلى لجنة العقوبات الأممية الخاصة بالسودان وثق نمطًا متكررًا لرحلات شحن عسكرية لطائرات “إليوشن IL-76TD” من الإمارات إلى تشاد، تهبط قرب مناطق تسيطر عليها قوات الدعم السريع في دارفور. العديد من هذه الرحلات اختفى من الرادارات أو غيّر مساره، في ما يُعدّ مؤشراً على عمليات تهريب سرية.
وصف المحققون هذه الظاهرة بأنها “جسر جوي إقليمي جديد”، اعتبروه بمثابة قناة تسليح ثابتة تبقي آلة الحرب بيد ميليشيا متهمة بالإبادة الجماعية. واللافت أن هذه المعلومات طابقت تمامًا الأدلة التي قدمها السودان في لاهاي.
لكن في قاعة مؤتمر لندن؟ لم يُذكر شيء. لا عن الأسلحة، ولا عن التهريب، ولا عن الضحايا. لم يُعطَ السودان كرسيًا في الغرفة. بل العكس: الإمارات، التي تخضع لتحقيق دولي، صُوّرت كفاعل خير.
هذا لم يكن سهوًا، بل فعلًا متعمدًا من أجل تنظيف الصورة دبلوماسيًا — اختيار واعٍ لحماية الحليف الثري وطمس الحقيقة. في لندن، كُتمت الحقائق، واحتُفي بالجناة، بينما أُقصيت الأدلة ومعها علم السودان.
تحالف الإفلات من العقاب: الإمارات، تشاد، كينيا
لم تُدان الدول التي تؤجج الحرب في السودان في مؤتمر لندن — بل تم تكريمها. الإمارات، المتهمة بتمكين الإبادة، قُدّمت كفاعل إنساني. تشاد، المذكورة في التقرير الأممي كممر رئيسي للأسلحة، وُصفت بأنها شريك إقليمي مستقر. أما كينيا، التي استضافت شخصيات معارضة مرتبطة بالدعم السريع تحت غطاء “الحوار المدني”، فتم تقديمها كوسيط سلام.
وفي 20 فبراير 2025، نشرت Eastleigh Voice تقريرًا بعنوان: “كينيا تدافع عن استضافتها لفصائل معارضة سودانية مدعومة من الدعم السريع”، أكدت فيه دعم نيروبي لشخصيات سياسية مرتبطة بالميليشيا، رغم رفض الشارع السوداني لها.
تكوّن بذلك تحالف واضح للإفلات من العقاب: الإمارات تزود بالسلاح، تشاد تسهّل عبوره، وكينيا تمنح الغطاء السياسي. هؤلاء هم من تمت دعوتهم للمشاركة في رسم مستقبل السودان — بينما أُقصي السودان الحقيقي عن الطاولة.
والرسالة إلى السودانيين في الجنينة ونيالا والفاشر وغيرها من المدن كانت واضحة: يمكن تأجيل العدالة، ويمكن التلاعب بالحقيقة، ويمكن اختطاف السيادة.
“المسار المدني الثالث”: إصلاح شكلي، مشروع بالوكالة
من أكثر مشاهد مؤتمر لندن إثارة للقلق كان الترويج لما يسمى “المسار المدني الثالث” — مبادرة مدعومة من المانحين تُسوّق كخارطة طريق نحو الديمقراطية. لكن الحقيقة؟ كانت إعادة تدوير لقوى سياسية غير منتخبة، أعيد تسويقها بأسماء جديدة: من قوى الحرية والتغيير، إلى تقدم، إلى صمود… وأسماء أخرى قادمة. هؤلاء غابوا عن المشهد أثناء هجمات الدعم السريع، لم يتحدثوا أثناء مجازر دارفور، ولم يصفوا الميليشيا بما هي عليه: منظمة إرهابية. إدانتهم للعنف انتقائية، ولغتهم مصاغة بعناية لتناسب الجهات المانحة. لا يمثلون الشعب، بل من يموّل منصاتهم. بل ذهب بعضهم أبعد، مطالبًا بتدخل أممي تحت الفصل السابع — بما يعني فرض وصاية أجنبية على السودان. لا انتقال ديمقراطي هنا، بل مشروع مفروض من الخارج لإدارة السودان لا لتحريره. الشعب السوداني، من قاوم ونجا ودفع الثمن، لم يُسأل. لم تُسمع صوته في لندن. هذا “المسار المدني” ليس نابعًا من الإرادة الشعبية، بل من هندسة دولية. والسودانيون يرونه بوضوح.
خاتمة: أُسكتت العدالة… لكنها لم تُهزم
ما جرى في لندن لم يكن قمة إنسانية، بل عرضًا تمثيليًا مخططًا بعناية. مؤتمر احتفى بالمتهمين، وأقصى الضحايا، وأسكت الحكومة الشرعية للسودان. لم يكن الهدف إنهاء الحرب، بل إعادة صياغة سرديتها بطريقة مريحة للقوى الكبرى. لا مساءلة، بل تلميع. لكن من لاهاي إلى شوارع الجنينة والفاشر والخرطوم، ومن مخيمات النزوح إلى الشتات، أوضح السودانيون موقفهم: هم ليسوا ضحايا صامتين، بل فاعلون في معركة كرامة وسيادة وعدالة.
في لندن، غُيّبت أصواتهم — ولكن لم تُمحَ. السؤال ليس لماذا لم يكن السودان حاضرًا. بل: لماذا فضّل العالم التحدث عن السودان دون التحدث إليه؟ لماذا ساد الصمت على الحقيقة؟ ولماذا اختير الترضية بدلًا من المحاسبة؟
وإن كان هدف مؤتمر لندن دفن قضية السودان، فقد فشل. السودان ليس هامشًا. إنه العنوان الرئيسي. ومقاومته — القانونية، المدنية، والمسلحة — مستمرة، وبكل وضوح.
في الجزء الثاني:
نتناول ما تلا مؤتمر لندن: التناقضات التي فضحت هشاشته، الانقسامات داخل تحالف المانحين، حملة الرقابة التي قادتها الإمارات من وراء الكواليس، وردود الفعل الدولية التي بدأت تتصاعد. معركة السودان من أجل مستقبله لم تنتهِ بعد — والعالم بدأ يفتح عينيه.