ليلة اللهب وأضغاث أحلام الزعيم الشريرة… الإمارات بين الحلم والمؤامرة

بقلم: عبدالعزيز يعقوب

كانت دبي تلك الليلة أشبه بمرآة مكسورة، كل شظية منها تعكس وجهاً آخر للرعب، كأن المدينة تنظر إلى نفسها في ماء آسن فتجد ملامحها مشوهة. الهواء مثقل برائحة الدخان المحترق، والسماء تتلوى من ألسنة اللهب التي تتصاعد من قلب المدينة، تراها من  نوافذ الفنادق التي كانت يوماً ملاذاً للأثرياء ورجال الإعمال والسياح. صفارات الإنذار تتناوب مع صراخ النساء، ووجوه الأطفال الدامعة كانما تشتكي حكام السوء و تشرئب من نوافذ السيارات العالقة، تبحث عن شاطئ بعيد لا تدركه النار وطريق امن يعيد للحياة جمالها.

في ركنٍ معتم قرب موقف المواصلات العامة ، وقف رجل وقور، كأنه شيخ المدينة الذي يعرف أسرارها، يهمس لجماعة من الشبان المتزاحمين حوله. صوته، نصفه حذر ونصفه ذهول، قال. “وصلتني رسالة مؤكدة… الإمارة المركزية أبوظبي، الإمارة الشرقية، والإمارة الساحلية… كلها تحت نيران هجوم بطائرات مسيّرة، ضربوا الموانئ والمطارات والوحدات العسكرية، محطات المياه، محطات تكرير النفط… كل شيء مستهدف.”

انتشر الخبر كالنار في هشيم القلوب قبل الشوارع. تضاعف الصراخ، وتحولت طوابير المخابز إلى ساحات اشتباك بالأيدي. اقتحم الناس بعض المحلات بلا استئذان، نُهبت عربات الماء قبل أن تبلغ مخازنها، وأُغلقت المتاجر الصغيرة بأقفال مرتعشة.

توالت الأخبار كنبضٍ محموم؛ كل ساعة تحمل انفجاراً جديداً في ميناء أو محطة كهرباء. القنوات الرسمية تلمّح إلى “أطراف أجنبية” و”دولة مجاورة” وأخرى “تسعى لإعادة تشكيل السلطة في الإمارة”. وفي الظلال، كان همس المراسلين يربط السودان بمسرح عمليات لوجستية غامضة، مع جهة شرقية تدفع بمقاتلين عبر وسطاء، وجناح شمالي يدير التمويل، وظل خليجي يطل من بين السطور كملاك موتٍ يلوّح بيده من بعيد.

عند شروق الشمس، ظهر البيان العاجل للأسرة الحاكمة، بصوت مذيع صارم الملامح، مرتجف النبرة…

“أثبتت التحقيقات الأولية تورط عناصر إرهابية من جنسية سودانية في الهجمات التي استهدفت مدننا وموانئنا ومحطات النفط، وقد تم القبض على مجموعة منهم، وسيحالون إلى العدالة في أقرب وقت.”

لكن المفاجأة، أو الصدمة، جاءت بعد البيان مباشرة. ظهرت على الشاشة مذيعة سودانية بوجه مصقول بابتسامة صفراء، وصوت يتقاطر منه سُكَّر النفاق. واصلت على الهواء شتم الحكومة السودانية، ووصفتها بالفلول والإرهابيين، متهمةً إياهم بـ”العمالة والخيانة للامة ”، ثم انطلقت في مديح الأسرة الحاكمة مديحاً يشبه تراتيل المتبتلين، تصفهم بـ”مفاتيح الخير” و”مصابيح الهداية” و”سقيا العطاشى” و”حماة الحمى”. لم يحتاج المشاهدون إلى ذكر اسمها كي يعرفوها؛ كان وجهها كتاباً مفتوحاً على الولاء الأعمى.

في الشوارع، اندفع الغوغاء نحو السودانيين وممتلكاتهم، مُزقت لافتات المطاعم الصغيرة، وانطلقت حملات إلكترونية تطالب بطردهم. الصحف الرسمية وضعت الخرطوم في قلب محور التخريب مع جهات شرقية وشمالية، وهي تلمّح إلى “تنسيق مع دولة خليجية مجاورة”، فهمها الجميع دون أن يُقال اسمها.

الخرطوم ردت ببيان مقتضب، نفت فيه أي صلة بالهجمات، وأكدت احترامها لسيادة الدول، لكنها ذكّرت بأنها تحتفظ بحق الرد على ما قامت به “الدويلة” من دعم لمليشيا الدعم الإرهابية.

المعارضة السودانية في سقوط جديد  من جهتها سكبت الزيت على نار الشكوك، متحدثةً عن شراكة خفية للحكومة ضمن ما سمّته “الحزام الإرهابي”، وعن أن السودان بات “ملاذاً للميليشيات والمرتزقة”.

أما في عاصمة الدويلة، فبدت السلطة وكأنها وجدت في الحادثة كنزاً سياسياً؛ توسعت في الإجراءات الأمنية، وحركت قواتها على الحدود، وفتحت أبواب المشاورات السرية مع حلفاء غربيين تحت شعار “حماية الدولة” وإعادة رسم خرائط النفوذ.

… وفجأة، انطوت اللوحة.

الزعيم كان غارقاً في نومٍ مسموم بالكوابيس، تتلاحقه صور وجوه غاضبة من السودان، بيانات تتفجر على الشاشات، خسائر مالية بالمليارات تتساقط كأوراق الخريف، وعناوين صحف عربية وغربية تصرخ بتورطه شخصيا في دعم مليشيا الدعم السريع. حتى أصوات أصدقائه السابقين باتت كالمسامير في رأسه، حلفاء الأمس يتهامسون عن مغامراته المتهورة، عن أوهام العظمة التي تضخم ذاته كما ينفخ الساحر فقاعة لا تعرف إلا الانفجار.

انتفض من فراشه كالممسوس، عيناه زائغتان، عرقه يتصبب، ويداه ترتجفان ارتجاف المذعور الذي هرب من حلمه ولم ينجُ منه. هرع إلى النافذة، فرأى الساحة أمام القصر ساكنة، والحرس في مواقعهم، والبحر يلمع بهدوء تحت ضوء الفجر. لا انفجارات، لا حرائق. التفت إلى شاشة التلفاز، فوجد برامج الصباح تبث أخباراً اقتصادية وسباق خيل، والمذيعة السودانية ذاتها تواصل مدح الأسرة الحاكمة وذم الحكومة السودانية بأسلوب يتسلل إلى الوعي مثل بخور الطاعة في معبد النرجسيات.

 

جمد في مكانه، ثم زفر ببطء، وأدرك أن كل ما رآه لم يكن إلا أضغاث أحلام… لكن أحلامه لم تكن كبقية الأحلام؛ كانت بذوراً سوداء تتفتح في تربة عقله المهووس. جلس على الأريكة، ألقى رأسه إلى الوراء، وابتسم ابتسامة مشروخة، ثم همس لنفسه كمن يستمع لوحي شيطاني، “وماذا لو… جعلتُ الحلم مؤامرة حقيقية، لأفتك بحكومة السودان وحركتها الإسلامية، وشعبها والهوس الديني وأدعم بها مليشيا الدعم السريع؟”

مد يده إلى كأس الشراب، وأخذ يبرمه ببطء، وهو يحدق في السائل كما يحدق عرّاف في دم مذبوح، يختبر طعم الفكرة قبل أن يطلقها في العالم كسهم مسموم.

وهكذا، حين عاد الصباح يمد خيوطه على قصور الإمارة، كان الزعيم  قد تحرر من كابوسه، لا باليقظة، بل بالاستسلام له. فقد أدرك أن الحلم لم يكن نذيراً بالهلاك، بل وصفةً لاصطياد خصومه في خرطومٍ بعيدة، ولبناء مجده على أنقاضهم. وفي أعماقه، حيث يسكن الجنون كظل لا يفارقه، كانت النرجسية تضحك وتصفق، وتهمس له بأن النار التي رآها في منامه لن تبقى في منامه طويلاً… إذ يكفي أن يأمر، حتى تشتعل.

Exit mobile version