رأي

قنابل الكلام وصمت البنادق…. لماذا لم تضرب إيران إسرائيل قط؟

 

عبدالعزيز يعقوب

(١)

على امتداد أربعة عقود، وُضعت إيران في واجهة الخطاب المعادي لأمريكا وإسرائيل، وتصدّرت عناوين الثورة وهي تردد شعار “الموت لأمريكا… الموت لإسرائيل”، حتى غدت الصورة السائدة أن طهران تقف على النقيض الأخلاقي والسياسي من هذين الكيانين. غير أن ما جرى في الكواليس، وفي ممرات السياسة الخفية، يشي بشيء مختلف… شيء أقرب إلى التواطؤ المقنّن، أو “العداء الوظيفي” الذي يخدم أجندات أوسع من مجرد الكراهية الظاهرة.

 

إن ما تسوّقه إيران من عداء ضد واشنطن وتل أبيب لا يُترجم إلى حرب مباشرة، بل يتحول إلى أدوات ناعمة تستنزف بها موارد المنطقة، وتفتح أبواب التدخل الأجنبي واسعًا في الخليج والعالم العربي. فمن المستفيد من تحويل اليمن إلى ساحة صواريخ بالوكالة؟ ومن يربح حين تُنهك دول الخليج في سباق التسلّح، تحت تهديدات إيران النووية والميلشياوية؟

بل من الذي صمت دهورًا عن تغلغل إيران في العراق وسوريا ولبنان، بينما كانت المخابرات الأمريكية والإسرائيلية على دراية تامة بخيوط التمدد المذهبي والعسكري؟

 

(٢)

لقد بات من المشروع أن نتساءل؟

هل هذا “العداء الظاهر” بين إيران من جهة، والولايات المتحدة وإسرائيل من جهة أخرى، هو عداء حقيقي؟ أم أنه صراع مدروس يُدار بحذر ليبقى تحت السيطرة، دون أن يُحسم، بهدف إبقاء المنطقة في حالة استنزاف دائم؟

تتقن طهران لعب دور “الشيطان الثوري” في وجه الهيمنة الغربية، لكن عجلة اقتصادها تدور على وقع تفاهمات سرية، وتبادل مصالح، وصفقات تبقى بعيدًا عن عيون الإعلام. وأما إسرائيل، فإنها لم تُظهر يومًا قلقاً جاداً من البرنامج النووي الإيراني، بل وظفته كورقة لتبرير توسعها الأمني، وضمان انكفاء العرب نحو الداخل.

وهكذا، لا يبدو الصراع ثلاثيًا بقدر ما هو مثلث هندسي دقيق الزوايا: ضلع يمسك الإعلام، وضلع يمسك التسليح، وضلع يعبث بوحدة الشعوب الإسلامية. وفي النهاية، تبقى النتيجة واحدة: انكشاف الجبهة العربية، وذوبان القضية الفلسطينية وسط صراعات فرعية تُصاغ على وقع طهران وتُدار من واشنطن وتُراقب من تل أبيب.

ولعل أوضح الشواهد التاريخية على هذا “العداء المُدَار”، ما عُرف بفضيحة إيران–كونترا (1985–1987)، حين قامت إدارة الرئيس الأمريكي رونالد ريغان، عبر شبكة معقدة من الوسطاء، ببيع أسلحة لإيران – العدو المعلن – لتمويل ميليشيات الكونترا اليمينية في نيكاراغوا، في انتهاك صريح للقانون الأمريكي. كانت طهران آنذاك تخوض حربًا دامية مع العراق، وكان الخطاب الإعلامي مزدحمًا بصور “الشيطان الأكبر”، لكن خلف الستار كانت واشنطن ترسل شحنات الصواريخ والطائرات وقطع الغيار.

 

(٣)

وفي أعقاب غزو العراق عام 2003، أدت طهران دورًا محوريًا – لكن غير معلن – في تمهيد الطريق للاحتلال الأمريكي، حيث سهّلت ميليشياتها الشيعية وعلى رأسها فيلق بدر وحزب الدعوة، عملية إعادة ترتيب السلطة بما يخدم مصلحة الطرفين، واشنطن الساعية لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، وطهران الباحثة عن “الفراغ الشيعي” في بغداد. لقد سلمت أمريكا العراق إلى إيران من دون طلقة واحدة، ومن ثم لعب الطرفان لعبة “العداء المزدوج”، حيث تتبادل ميليشيات إيران إطلاق الصواريخ على قواعد أمريكية، بينما تُضبط المعارك ضمن “قواعد اشتباك” لا تفضي إلى حرب شاملة.

 

أما إسرائيل، فقد بدت مواقفها من البرنامج النووي الإيراني متأرجحة بشكل مثير للتساؤل: فبينما يهدد نتنياهو على المنابر الأممية بـ”الخط الأحمر” و”القنبلة الوشيكة”، كانت إيران تمضي بهدوء في تخصيب اليورانيوم دون رد حقيقي. وقد استخدمت تل أبيب هذا التهديد الإيراني المفترض كذريعة لتطبيع علاقاتها مع دول الخليج، وتقوية حضورها الأمني، وتحويل الخطر من “الاحتلال” إلى “الخطر الشيعي”.

 

وفي ذروة الحديث عن المواجهة، ظلّ التهديد الإيراني المستمر بضرب إسرائيل في خانة “الخطاب المجازي”. فلم تُطلق طهران يومًا صاروخًا مباشرًا نحو تل أبيب، ولم تدخل في مواجهة عسكرية حقيقية، رغم كل ما يملكه “محور المقاومة” من أدوات. بل حتى في خضمّ حرب غزة، حين ارتفعت حدة التصريحات، اختارت إيران الحذر المدروس، وأبقت ردودها ضمن الحيّز الإعلامي أو عبر أذرعها بالوكالة، في حين ظلت الجبهة بين إيران وإسرائيل على امتداد عقود أكثر الجبهات “هدوءًا” رغم كل الضجيج.

(٤)

وجاءت القشة التي كسرت قناع هذا العداء… حين اغتالت إسرائيل إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، في طهران يوم 31 يوليو 2024، أثناء مشاركته في مراسم تنصيب الرئيس الإيراني الجديد. ورغم أن إيران أدانت العملية وشيّعت القتيل بجنازة رسمية، إلا أن الأسئلة بقيت معلّقة كيف استطاع الموساد تنفيذ هذه العملية الدقيقة في قلب العاصمة الإيرانية؟ وأين كانت الحماية الأمنية لحليف يُفترض أنه من “رموز محور المقاومة”؟

 

والأدهى من ذلك، أن طهران، التي تدّعي احتضان حركات المقاومة، لم تتردد في التضييق على بعض قيادات حماس داخل أراضيها أو مناطق نفوذها، بل وشاركت في ملاحقة بعضهم أمنيًا حين تجاوز خطابهم سقف الولاء الكامل.

 

كل ذلك يجري بينما يُنهك الخليج العربي في شراء الأسلحة وبناء التحالفات الأمنية لحماية أراضيه من “الخطر الإيراني”، ويُستنزف الشارع العربي في متابعة مسرحيات العداء التي لا تكتمل فصولها، ولا تنتهي إلى معركة حقيقية، بل إلى مزيد من التبعية والإنهاك.

(٥)

والأدهى من كل ما سبق، أن الحكام العرب، وهم يتابعون هذه المسرحيات المُكرّرة، لا يتحركون إلا لحماية عروشهم المتهالكة، لا لحماية أوطانهم. تُهدر الثروات العربية في شراء صفقات سلاح لا يُستخدم إلا ضد الشعوب العربية المقهورة ، وتُبنى قواعد أجنبية فوق أرض العرب لا لردع العدو، بل لضمان بقاء أنظمة تخشى شعوبها أكثر مما تخشى الغزاة. في وقت كان يمكن فيه أن تُوظّف هذه الموارد في بناء نهضة اقتصادية وصناعية وتكنولوجية تضع الأمة في طليعة الأمم، وندّاً بند وبحفظ حقوقنا السيادية وتكسر التبعية المزلة والطاعة المهينة التي ترتهن قرارنا وسيادة الامة لواشنطن أو طهران أو تل أبيب.

فهل آن لنا أن نكفّ عن تصديق العداء المُمَسرح؟ وهل آن للشارع العربي أن يُدرك أن من لا يملك قراره، لا يملك معركته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى