قراءة في كتاب (أصول الفكر السياسي في القرآن المكي) للدكتور بروفيسور التيجاني عبدالقادر حامد

عرض وتقديم: حسن يحيى حسن
الدكتور التجاني عبدالقادر هو أحد الأكاديميين المتقدمين في مجالات السياسة والاقتصاد، حاصل على دكتوراة العلوم السياسية من جامعة لندن، عمل محاضراً بجامعة الخرطوم وحالياً عميداً لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة قطر. قدم محاضرات وأوراق علمية يناقش فيها قضايا الفكر السياسي الإسلامي وتداعيات الدولة الحديثة وفلسفة الحكم في الإسلام.
رفد الدكتور التجاني عبدالقادر المكتبة الإسلامية بهذا الكتاب القيِّم الذي يعتبر أقوى سبل المدافعة الفكرية إتجاه الحضارة الغربية، ودعوة للحفاظ على الهوية الإسلامية والعمل على نشرها، والدعوة إلى هذا الدين الحنيف والعمل على رفع راية الحق وعدم التنازل عنها. يشتمل هذا الكتاب على قضايا كثيرة ليست قضية أصول الفكر السياسي في القرآن المكي فحسب بل قضايا الفكر السياسي عموماً منذ المثالية الأفلاطونية ودولة الإسلام الأولى ومروراً بحكم الكنيسة في أوروبا إلى الفكر السياسي الحالي؛ احتوى هذا الكتاب على خصائص الدولة الإسلامية المنشودة، وعمل على تبيين معالمها، وقدم نقداً وافياً لانحرافات اليهودية والمسيحية والمدارس اليونانية القديمه واستبداد الكنيسة في أوروبا واتجاهات التدين الوضعي الأوروبية الحداثوية والحكام المستبدين من المسلمين.
مقدمة:-
تمكن الإنسان من تفكيك الطبيعة والإنسان والتاريخ والأديان بمناهجه الوضعية واتجاهاته التفكيكية التحليلية والتي يعزز بها أفكاره في فلسفة النهايات “نهاية التاريخ والحداثة والليبرالية … الخ “، لكن فلسفة النهايات هذه لا تؤدي إلا إلى عدمية أو عبثية أو كليهما؛ ولا يمكن أن تؤدي إلى تركيب؛ لأن التركيب يتوقف على منهج كوني، ولا مصدر لهذا المنهج إلا كتاب كوني، وليس في هذا الوجود كتاب كوني إلا القرآن الكريم؛ فالقرآن وحده القادر على تقديم المنهجية الكونية التي يمكن أن تعلم الإنسان؛ فالفكر الإنساني -على عكس الفكر الإسلامي- يحتمل الصواب والخطأ ويتغير بتغير الزمان.
الفكر السياسي:-
قبل تعريف الفكر السياسي؛ ماهو المجتمع السياسي؟ يمكننا القول أن هذا المجتمع سياسي إذا كانت له هيئة سلطوية خاصة تستطيع أن تنشر أحكاماً مخصوصة للسلوك تضعها هي أو تتبناها، وتطبقها وتكره على الالتزام بها وتطاع، ويعترف لها بالسيادة طوعاً أو كرهاً، كما يعترف لها بالتفرد وصلاحية الجزاء المادي. عُرِّفَتْ السياسة عند معجم “لتره” بأنها “حكم الدول” وعند معجم “روبير” بأنها “فن حكم المجتمعات الإنسانية” ولكن التعريف الحديث شامل لحكم الدول وحكم الأنساق الإنسانية الأخرى.
أصول الفكر السياسي:-
كلمة أصول تحمل مفهوماً لغوياً واصطلاحياً، فالأصل في اللغة هو ما يبنى عليه، أما في الاصطلاح فهو يأتي بمعنى الراجح أو المستصحب وبمعنى القاعدة وبمعنى الدليل، وهذا ما تبنى عليه كتب أصول الفقه السياسي.
القرآن المكي:-
الرأي المشهور بين العلماء عن القرآن المكي هو ما أُنزِل قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وإن كان نزوله بغير مكة. فالاعتبار هو أن السور المكية يغلب عليها طابع التعرض للأصول، بينما يغلب على السور المدنية طابع التشريع التفصيلي للأحكام، وأن عقيدة البعث المبثوثة في القرآن المكي هي الأصل الاعتقادي الذي ترتكز عليه أصول الفكر السياسي في الإسلام.
المفهوم الكلي للوجود:-
قسم الكاتب المدارس الفلسفية المنظرة في الوجود إلى مدرستين أساسيتين:
أولاً: المدرسة الأفلاطونية وتأثيرها في الفكر السياسي؛
يذهب أفلاطون إلى أن الفكر هو الحقيقة الأساسية الكبرى في الوجود، ويُفصِّل ذلك في نظريته “المثل” والتي خالفها فيه أرسطو باعتبارها تلتف حول الغموض والإبهام، وأنها ذات صفات غير معلومة وغير محددة، وبالتالي لا تصلح أن تكون مركزاً أصولياً يفسر ظاهرة الحياة، واستعاض أرسطو بفكرة “الجوهر”، أي أن كل شيء يمثل جوهراً وأن حقيقة الشيء تكمن في جوهره. أسس أرسطو مذهباً واقعياً خالصاً في الفكر السياسي قام على أنقاض المثالية الأفلاطونية، التي وجدت تأييداً في فكرة القانون الطبيعي التي ساعد على تأصيلها فقهاء اللاهوت المسيحي، وأصبح القانون الطبيعي أصلاً لشرعية السلطة السياسية في المجتمع وتحاكم إليه المؤسسات السياسية.
جاء هيجل يحمل فكرتي المثالية الأفلاطونية والتطور الذي دعا إليه أرسطو وأنتج فكرة “الروح المطلقة” التي تفصح عن نفسها في واقع الحياة المادي من خلال عملية التطور الديالكتيكي، وتقوم على أساس جوهر الحقيقة الكونية والإنسانية، وتعتبر حركة التاريخ هي صيرورة مستمرة لتحقيق هذه الروح المطلقة، وهذا ما عرف عنده بفكرة المكر التاريخي cunning of history، ويقول أن الدولة هي التحقق شبه الكامل للروح المطلقة في التاريخ المادي وأنها تمثل أرقى أنماط التنظيمات السياسية.
قام كلاً من فيورباخ وماركس بمعارضة المثالية الهيجلية وردها إلى المادية الواقعية؛ فماركس يرى أن الروح والعقل ليست أشياء غير المادة، وأن جوهر الحقيقه ليس الروح وأن المادة ذاتها في حالة حركة ديالكتيكية بين طبقة اجتماعية وأخرى، في صيرورة ليست نحو تحقيق الدولة المطلقة وإنما نحو تحقيق الشيوعية المطلقة، ولكنه يتفق مع هيجل على أن هنالك خطة تاريخية كبرى تكمن خلف الوقائع والأحداث.
جاءت المدرسة الوضعية تدعو بإلحاح إلى ضرورة انعتاق العلوم الاجتماعية من القيم المعيارية، وتنادي إلى فك الارتباط بين السياسة والقيم، لتقوم السياسة على الحقائق المجردة مثل العلوم الطبيعية، وهذا ما أدى إلى موت الفلسفة السياسية.
ثانياً: مذهب التوحيد الإسلامي وأثره في الفكر السياسي؛ تذهب هذه المدرسة على عكس المثالية الأفلاطونية إلى القول بأن المادة التي يتشكل منها العالم هي حقيقة موجودة بصورة مستقلة عن الفكر، وتتخطى الفكر والمادة معاً وتذهب إلى تأكيد وجود الله سبحانه وتعالى ومعرفته بإسمه وصفاته وأفعاله، معرفة تأتي عن طريق نبي مرسل وكتاب منزل ويكون هذا الاعتقاد التوحيدي الإسلامي هو اعتقاد في نسق القيم المعيارية التي تكون بمثابة الميزان، تدرك به الغايات الاجتماعية الكبرى وتقوم به المؤسسات، وستكون مهمة الحكم والسيادة العليا في نظرية الاعتقاد التوحيدي هذه لله وحده، وبعث رسولاً يتوسط بين الحق والخلق في حمل الرسالة وتبيانها، والشريعة التي يأتي بها الرسول ليست كالقانون الطبيعي الذي يلتمس بالحدس أو بالاستقراء والتجريب، وإنما هي أمر مباشر يلقى على العقل والإرادة الإنسانية؛ فالشرع الديني هو قانون ذو مادة موضوعية ولغة فصيحة بيِّنة ومعلومة الدلالة، ولا يصدر عن جهة مجهولة الصفات أو مبهمة الوجود مثل مثالية أفلاطون، وكان هذا المنهج التوحيدي معتبراً بالتاريخ، قال تعالى:(هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ۖ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا ۖ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا)، وتدل الآية على أن حركة التاريخ وتطوراته تتم بالفعل الإنساني الإرادي الذي ينتهي إلى التمكن الحضاري في الأرض أو ينتهي به إلى التلاشي والفناء؛ إن القرآن يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين للاعتبار بشهادة التاريخ الاجتماعي؛ الذي يقدم القصص القرآني نماذج له (وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).
أصول الفكر السياسي في القرآن المكي:-
مما هو معلوم أن القرآن لا يعرض الأفكار والمبادئ كأنساق شكلية مجردة كفعل المناطقة والفلاسفة، وإنما يعرضها عرضاً لغوياً ومادياً من خلال أنماط تطبيقية، كما أن عرضه لهذه المبادئ لا يجيء في فصل واحد يختص بها، وإنما يتخلل كل السور والأجزاء. في أثناء استعراض هذه السور المرجعية تجول الكاتب في كل القرآن المكي لإلتقاط الأصول المتفرقة من القرآن المكي في سوره المختلفة، دون إخلال في الصياغة أو تعسف في الأخذ، واختار أيضا جملة من الآيات نزلت متتالية بمكة تتعرض بصورة واضحة لموضوع الأصول السياسية للدولة الإسلامية. اختار الكاتب سورة الأعراف -وفقا للمنهج الذي ذكره- كسورة مرجعية وقسمها إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: يحدد مفهومين أساسيين؛ (أ) أن الناس جميعاً مخلوقون وأنهم قد خلقوا من نفس واحدة (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) وقد خلقوا على فطرة سليمة (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا)، وأن الله قد مكن لهم جميعاً في الأرض وجعلها مصدراً لمعاشهم (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ)، (ب) أن الناس جميعاً مأمورون لمن له الخلق والأمر اللّه عزَّ وجل.
القسم الثاني: يعرض نماذج تجارب الرسل السابقين على مدى التاريخ الإنساني كتطبيقات عملية لما ذكر في القسم الأول، (يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي ۙ فَمَنِ اتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)، وبيان مسيرة الخلق ومناط النزاع وعلل الخروج ومآلات ذلك.
القسم الثالث: قد أُجمِلَت فيه المعاني التي فُصِّلَت في الإطار التصوري المقدم، فهي تتحدث عن الأمر التكليفي وعن إقامة القسط وعن إخلاص الولاء وتوحيده وعن الإصلاح في الأرض والإفساد فيها (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ۖ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ۚ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ).
معلوم أن الممارسة المنحرفة التي يكون عليها الناس قبل الرسل ستتمثل في شكل ولاءات تكتسب صفة العراقة والمشروعية وقد تصبح هي بذاتها ديناً؛ ولذلك حين يأتي رسول إلى قومه بدعوة التوحيد سيتجه خطابه إلى مسألة الولاءات، وهذا يعني ببساطة أن الرسول يأتي معلناً قيام دولة تكون فيها السيادة لله وحده، وقد أرسل الله الرسل وأنزل معهم الشرائع لتكون هي المرجع الموضوعي الذي تعرف به إرادة الله، ولتكون هي الميزان الذي يُقَوِّم أفعال الحق واعتقاداتهم، ويتولى الرسل شرحها وبيانها وتطبيقها حتى يكونوا بذلك شهداء على الناس فلا تكون لهم حجة على الله بعد الرسل والشرائع، ويكون الغرض الرئيسي لدولة الرسول هو إعادة الولاء لله وإخضاع الأرض إلى الوحي وهو الشريعة الآمرة الناهية في شؤون المجتمع (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ) وأوحى إلى رسوله بأن يقيم القسط والعدل (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ)، (اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ۗ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ)، وقد خاطبهم باعتبار أنهم قومه ويدعوهم إلى مبدأ حرية الفعل السياسي والديني داخل إطار الأمة الواحدة والأرض الواحدة (قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ ۖ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ)، وسمحت دولة المدينة الأولى بوجود المشركين واليهود، ومن ثم أصبح عنصر الإقليم “المدينة” هو الذي يعطي الحق في المواطنة أي في عضوية “المجتمع”.
خصائص الدولة الإسلامية:-
ذكر الكاتب صفات وخصائص الدولة الإسلامية ووصفها بأنها:
• ستكون دولة توحيدية تحريرية؛ فطالما أن العدل يعني أن يُوَّحَد الولاء لله فإن توحيد الولاء سيحرر الناس؛ فهي دولة تصل للحرية عن طريق التوحيد، إذ أنها بمفهوم الأصل الإنساني الواحد ستبطل الاسترقاق والاستكبار معاً، أي ستبطل التحكم في رقاب البشر كما ستبطل التحكم في عقولهم، وبتنفيذ مفهوم السيادة العليا ستُحرِر الناس من الإشراك الوثني والطغيان البشري (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا ۚ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)؛ فالفرد المؤمن في نظرية الميثاق الإسلامي قد خرج أصلاً من قهر الاستعباد المادي حينما آمن بتوحيد الوجود لا أحاديته، فجعل القيمة العلوية للوجود الغيبي، على عكس نظريات العقد الاجتماعي عند هوبز وجون لوك التي تدعو إلى الحرية وهي في الحقيقة تُدخِل الفرد الحر في دائرة ثلاثية من الاستعباد لا إنفكاك عنها.
• الدولة الإسلامية هي دولة لكل الناس (إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ ۖ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ)، ولا يمكن أن تكون هذه الدولة لفرد أو لفئة أو لطبقة طالما أن الكتاب يقرر وحدة الأصل الإنساني وربانية المصدر السلطاني، وكما قال الدكتور علي شريعتي أن القرآن بدأ بإسم الله وانتهى باسم الناس وأن الملك لله يعني أن الملك للناس وهم الذين يمثلون الله على الأرض، وأن الدين لله يعني الدين للناس؛ فلا يصح أن تحتكره مؤسسة أو فئة تعرف بالكهان أو الكنيسة أو غيرها من الأسماء؛ وقولنا إن الكتاب للناس وأن إقامة الدولة من أجل الناس يعني أن المقصد الأساسي من هذه الدولة أن ترعى مصالح الناس الحقة بعد أن تقيم العدل بينهم.
• الدولة الإسلامية هي دولة قانون يحتكم فيها الناس حكاماً ومحكومين إلى شريعة معلومة ذات قواعد موضوعية ووجود مستقل (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)، (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)، (اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ۗ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ)، وأن هذه الشريعة منزلة وليست موضوعة، إذ وضع الشرائع ليس من اختصاص البشر وإنما لله وحده، والشريعة المنزلة تختلف عن القانون الطبيعي الذي تستلهمه العقول استلهاماً فتصيبه أو تخطئه، وإنما هي نصوص وقواعد محكمة تجتهد العقول في إيجاد صيغ عملية لتطبيقها لا في البحث عنها، وجعلت الشورى منهجاً للحكم (وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ).
• من أكبر سمات الدولة الإسلامية أنها دولة غير ثيوقراطية وأنها محصورة بين الكتاب والأمة، وأن الحاكمية للكتاب ولا تَستَبِد بهذه الدولة طبقة من السدنة أو المشايخ، بل هي تكون في أيدي المسلمين عامة، وهم الذين يتولون أمرها والقيام بشؤونها على عكس الدولة الثيوقراطية. تتخذ الدولة الإسلامية موقفا مضاداً للاستبداد والطغيان، وهي قائمة على ميثاق التوحيد الذي ينتهي إلى تحرير الناس من سلطة الناس (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ (٦) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ)، (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَىٰ ۚ فَبَشِّرْ عِبَادِ ).
العلاقات الدولية وأثرها في دولة الرسول:-
الصراع الموروث الذي شهدته قريش والتآكل الداخلي الذي يقود لا محالة للانهيار والتداعي، وهو إفراز طبيعي للمجتمع الذي يقوم كيانه على قيم التجارة المستنكفة عن الغيب والمستترة بأشكال الدين وطقوسه، وهو سبب كاف لجعل قريش تفقد هويتها المستقلة وتسقط تحت هيمنة الأمم الأقوى تماسكا. مثلما كان الصراع السياسي العربي الذي عرضته سورة قريس والدائر حول المسجد الحرام، نرى أيضا الصراع السياسي في إطاره الدولي حول المسجد الأقصى والذي عرضته سورة الإسراء وتبعات الفساد الإسرائيلي (وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا) وبعدها جاء الفساد الدولي العام في دولتي الفرس والروم.
مما ذكرنا من فساد تلك الدول؛ سعى الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة نحو إقامة الدولة الإسلامية، وبدأ بإعلان الخروج على حكومة الملأ القرشي تنفيذاً لقول الحق تبارك وتعالى (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، وكانت تتمثل إستراتيجيته نحو إقامة الدولة في أن يسقط الشرعية الدستورية عن حكومة الملأ القرشي، وأن يدحض المقولات الدينية التي ترتكز عليها في تبرير سلطانها، وأن يدعو لتنظيم الحياة كلها على نمط ديني يسترشد بالكتاب المنزل بدلاً منه التدين الوضعي، وأن يدعو إلى الاحتكام إلى الشريعة الموحاة بدلاً من الأهواء الشخصية والطموح الفردي، وكان عليه أن يطوق قريشاً من الخارج بالأحلاف وعقود الجوار ومعاهدات النصرة والتصديق، والمحاولة في ضرب مصالح قريش الاقتصادية؛ وكانت رحلة الطائف والاستجارة بقبيلة نوفل والمفاوضات مع بني عامر، وكل هذه المعاهدات ليست إنقلاباً عسكرياً إنما هي ثورة في المفاهيم والقيم ونمط جديد في السلوك يجعل غاية الفعل الاجتماعي هو الجنة وليست السلطة.
مداخلة ما بين الفكر السياسي الإسلامي والإيديولوجية العلمانية:-
قام الكاتب بعرض الأيديولوجية العلمانية الغربية ورجع إلى أسباب حدوثها، مستدلاً لذلك بعرض أشكال الحكم على يد الكنيسة، وأسباب استبدادها وانحرافها ما أدى إلى إبعاد الدين من الفضاء العام في أوروبا وما تبعه من أحداث بعد ذلك.
نتوجه في هذا الجزء للمقارنة بين الفلسفة السياسية الغربية على لسان عدد من فلاسفتها وبين اتجاهات القرآن في الفكر الإسلامي. نظرنا من قبل في التطبيقات الدينية العربية في الحجاز كأنموذج للانحراف عن دين التوحيد، ومن أمثلتها التجربة الدينية اليهودية التي قامت على عقيدة الإيمان بإله واحد يسلم له المؤمنون جميعاً بالسلطة العليا جميعها، ولكن فشلوا في المحافظة على أصول التوراة وضاعت لغتهم العبرية، وأخذوا في محاولة ابتداع كيان ديني جديد أضيفت إليه الفكرة العنصرية التي تدعو اليهود لعدم الاختلاط بالأمم الأخرى، وأضيفت أيضا فكرة الأرض الموعودة وظلت هذه الأفكار تخالط الوجدان اليهودي المضطهد تحت السيطرة الرومانية حيناً والفارسية حيناً آخر حتى ظهور عيسى إبن مريم عليه السلام الذي جاء بالدين المسيحي، ولكن جرى عليه التحريف والتشويه بعد ذلك، ووقع تحت الاضطهاد السياسي الروماني وغلبة الفكر الرواقي، وكان انحرافه من حيث أصوله بداية لأصول الفكر العلماني الذي كان مذهب بولس بداية له. ظلت الكنيسة تحكم وتتحكم بإسم الدين كما هو معلوم في تاريخها لمدة عشرة قرون كاملة، وكان لها الولاء والطاعة والسلطان السياسي الكامل والمباشر حتى جاء مارتن لوثر الذي بدأ في حركة الإصلاح الديني في المسيحية في أوائل القرن السادس عشر الميلادي، والذي اعتمد بولس مرجعاً أصولياً للدين المسيحي، وحصر لوثر التجربة الدينية في دائرة الضمير الفردي المثقل بالخطيئة الأولى والذي وصل بنا إلى أصول الفكر السياسي اللاديني، وسيكون قاعدة صلبة يبني عليها العلمانيون فلسفاتهم السياسية، وتوصلوا إلى أن طاعة الدولة والكنيسة غير واجبة ولا ملزمة الاتِّباع ولا داعي لوجودها أصلاً، وأن السلطه المدنية لا تحتاج إلى قديس، وليس من الضروري أن يتحول الحاكم إلى قديس ليتسوفي شروط أهلية الحكم، وإنما يكفيه أن يستوفي شروط العقل؛ دعا كالفن على عكس لوثر إلى إقامة حكومة ثيوقراطية يحكمها القديسون بإسم الرب، وذلك لأن ميثاق الرب وقانونه اللذان بُسِطَا في الكتاب المقدس لم يقصد منهما إلا إقامة دولة الله في واقع الناس الأرضي.
ظهرت جماعات الديقرز والكويكرز والليفلرز وخاضت في كل مسلمات اللاهوت والاجتماع والسياسة خوضاً غير منضبط بمنهج، وكانت نتيجته التداعي والانهيار، وفي هذا المناخ المشحون ظهر مفكرو الفلسفة الليبرالية الغربية، متقدمين بها كأيديولوجية علمانية تتصدر لإزاحة الدين جملة وتفصيلاً، وإقامة مجتمع جديد يكون بلا دين على الإطلاق، ويكون له دين وضعي عقلي لا يعرف الغيب ولا يؤمن به، وأن السبيل الوحيد لتحصيل المعرفة وتحقيقها هو التجربة الحسية والإنسان الفرد مستقلاً عن الوحي الكنسي المحتكر وغير المقدس.
كان المفكر البروتستانتي لوثر ينظر للإنسان باعتباره كائناً منطوياً على “الإثم” ومولوداً يحمل معه “الخطيئة الموروثة”، والحل عند لوثر أن يؤتى لهذا الإنسان بمخلص وهو المسيح، أما هوبز فكان يرى أن الإنسان كائن مُنطَوٍ على الشر أيضاً، ولابد له من مخلص ليس هو المسيح إنما هو الدولة وهي السلطة المطلقة، فإذا تخلى كل فرد عن جزء من إرادته وحريته طوعاً للدولة فإنه سيتكون كيان سلطوي أقوى من مكوناته سيحفظ حياة المجتمع. وعند هوبز مصدر السيادة هو العقد الذي يتم بموجبه تجميع إرادات الأفراد في إرادة واحدة مطلقة هي الدولة التي لا تنتقض مشروعيتها، وأن هذا العقد يتم بين الأفراد على أساس العقل وتقدير المصلحة. يتضح لنا أن الباب الذي فتحه لوثر ولجه هوبز وأن البروتستانتية المسيحية قد انتهت إلى العلمانية المستبدة، وأن بداية الانحراف فيهما معاً هو النظرة الخاطئة للنفس الإنسانية، وهي في نفس الوقت منشأ الإختلاف بينهما وبين دين التوحيد، حيث أن النفس الإنسانية من المنظور الإسلامي التوحيدي لا تنطوي على الخطيئة الموروثة ولا على الشر المحض وإنما تقوم على الفطرة السليمة.
بعد ذلك جاء جون لوك وتحدث عن استقلالية الأفكار، هذا ما ميزه في وقتها وقال أن الإنسان ملكيته -بلا منازعة- هو “جسده”، وهي ملكية يمتاز بها بحكم طبيعته الإنسانية، وتحدث عن الدولة بأنها دولة “الفكر” أي أنها دولة عقلانية تنشأ بعقد بين أفراد عقلانيين، ويقول أن الملكية في الآن ذاته معطى من معطيات الطبيعة البشرية ومبدأ للشرعية السياسية، ولكن هذا الأمر مردود في القرآن، الذي وصف الملكية بأنها واحدة من نوازع النفس البشرية، ولا يمكن أن يجعلها قاعدة تستنبط منها القيم أو تستمد منها السيادة. وفي المنظور الإسلامي، على المجتمع الإنساني أن يؤمن بالوحي وبالغيب، وأن تقوم الحكومة لتحقق الرفاه الاقتصادي للناس في الأرض، ولكن لا لتقطعهم بذلك من الدار الآخرة بل لتصلهم بها، فالرفاه الاقتصادي والدولة السياسية التي تحرسه أو توفره كلها أدوات ووسائل يتكامل بها الإنسان ويستعين بها في مسيرة التوحيد؛ على عكس ما ذهب إليه آدم سيمث أن الرفاه الاقتصادي هو المخلص من الحاجة والعوز، وأن مهمة الدولة هي فقط أن توفر الحرية والحماية، والإنسان المالك وحده -محكوماً بطبيعة السوق التجارية- يستطيع أن ينمي ثروته فتنمو بذلك “ثروة الأمم” ويتحقق الخير العام تلقاءً.
ذهب ماركس إلى مبدأ إسقاط الإله الخالق، وأنه توجد صيرورة تاريخية غالبة تتخذ فيها الأفكار شكل الوقائع، وقسم التطور التاريخي الذي مرت به البشرية إلى مراحل متعددة، وقال أنه سينتهي بمرحلة الشيوعية الكبرى الأبدية، وهذا باعتباره نكسة في مسيرة التوحيد الديني اليهودي المسيحي مثل النكسة التي أحدثها بولس ولوثر البروتستانتي. التاريخ من المنظور القرآني ليس تدفقا عبثياً تتشكل به عقائد الناس وتصنع منه إرادتهم، وإنما إرادة الناس هي التي تشكل التاريخ متناصرة بالوحي ومستعينةً بالغيب.
كل هؤلاء المفكرون قد جاءت فلسفاتهم كردود على مذهب التدين الكنسي المنحرف، وكمحاولات لإيجاد بناءات فلسفية تقوم مقام الدين في مجال السياسة والحكم؛ فإذا قدَّمنا المنظور الإسلامي التوحيدي الذي لا يعترف بمبدأ الخطيئة الموروثة، ولا توجد فيه إشكالية الروح والجسد، ولا تعارض فيه بين معارف الحس وأنوار الوحي فإن المنطلق الأساسي لجون لوك سيفقد قوته والمسلمات الأولى لهوبز ستنهار.
إذا عرف الفلاسفة العلمانيون التجريبيون أن المعرفة الحسية هي سبيل مشروع للإيمان بأصل الدين، وعلموا أن القرآن يدعو للنظر وللسمع وللمشاهدة في الكون، وفي الأنفس والاجتماع، ويجعل التفكير فريضة لازمة على المؤمنين، وأنهم كانوا رواداً لمنهج الاستقراء والتجريب العلمي وصدر منهم، وسار عليه المسلمون وانتشر الى أطراف أوروبا، وتتلمذ عليهم في ذلك فرانسيس بيكون الذي صار أبا لهذا المنهج في الغرب، إذا عرفوا كل ذلك، لاحتاجوا للقيام مرة ثانية بثورة تصحيحية في المفهومات، كما فعل آباؤهم من قبل