رأي

غرف الطوارئ 

 

أمجد فريد

“حين ندرك الواقع ونصل إلى الوعي به، تقع علينا مسؤولية افعالنا وعدمها. يمكننا أن نفعل شيئاً أو نتغاضى عن الفعل، لكن في كلتا الحالتين، تبقى المسؤولية ملقاة على عاتقنا.”

– جان بول سارتر

نيل غرف الطوارئ السودانية لجائزة حقوق الإنسان لهذا العام، التي يمنحها الاتحاد الأوروبي، هو تكريمٌ مستحقٌ بامتياز، يحمل في جوهره اعترافاً ببطولة استثنائية، وإبداع وجهد أسطوريّ فذّ يتجاوز حدود الممكن والمعقول ويقفز فوق حاجز المستحيل. فما أنجزه هؤلاء الأبطال على الأرض لم يكن خاضعاً لحسابات وعوامل التخطيط والتنفيذ التي تتبناها المؤسسات الإنسانية العالمية، حسب كتالوج مسبق لعملها، تقيده أسئلة الأمان والجدوى والبيروقراطية والصوابية السياسية؛ التي تحول الناس إلى أرقام، وتقيم الأفعال بحسب متطلبات أجندات المانحين، بل كان فعلاً ضرورياً، عارياً من التردد، موجهاً مباشرةً إلى حيث تكمن الحاجة، في أشد لحظاتها إلحاحاً. لم يتساءل هؤلاء الأبطال مطولاً عما يجب فعله، ليهربوا من الفعل ويغرقوا في التعقيدات النظرية، بل انصرفوا إلى أداء الفعل نفسه وتطويره بحسابات الواقع وإبداعهم في تطويعه.

ومن خلال قربي من هذه الغرف في أدوار مساندة أتاحت لي التعرف على طرائق عملها المتجددة بعبقرية عضوية منقطعة النظير، لا يسعني إلا القول إن تجربة غرف الطوارئ في السودان تمثل لحظة فارقة يجب أن تُعيد تشكيل نظم العمل الإنساني العالمي. فقد نجحت هذه الغرف في سد فراغ كبير عبر تجاوزها – بحكم الامر الواقع – للإغراق في الجداول البيانية، والخرائط التوضيحية المصمتة والمصطلحات التقنية المتأنقة، والتقارير والخطط الإنشائية التي كثيراً ما تفتقر إلى المعنى الحقيقي؛ والانصراف بدلاً عن ذلك إلى إنجاز مهامها الميدانية بتخطيط تجريبي لا يستنكف أن ينغمس في تراب الواقع، ويخوض في طينه وركامه، ومواجهة مخاطره لا لينأى عنها، بل ليتحدى وجودها، إذ هي جوهر الحاجة التي يعمل من أجلها. وهو ما تحتاج منظومة العمل الإنساني العالمية إلى ان تتعلمه من هذه التجربة، إن لم تتذكره من تلقاء نفسها.

إن الدرس الأهم الذي نستخلصه من غرف الطوارئ السودانية هو أن المبادرات المحلية، المنبثقة من معرفة عضوية بالواقع والبيئة والسياق، هي الأكثر فعالية وجدوى. فبفضل مرونتها وتصميمها على إنجاز مهامها وارتكازها على فهم ومعرفة للواقع، استطاعت غرف الطوارئ أن تتخطى النقائص المعرفية التي تحيط بتصميم المخططات الزرقاء المعتمدة للتدخلات الإنسانية، وتبتكر طرق استجابة قاعدية ومرنة تتلاءم مع ظروف الطوارئ المتغيرة بإطراد، مهما كانت مفاجئة أو قاسية. بل إنها، فوق ذلك، الأقدر على تقديم نتائج ملموسة بتكلفة أقل بكثير من النماذج التقليدية المعتمدة في مكاتب جنيف وروما ونيويورك.

سيبقى ما قدمته غرف الطوارئ السودانية فريداً لا شبيه له، لا في مضمونه ولا في أثره، في سياق ما مرّ ويمرّ به السودان. فهي لم تكن تمارس عملاً خيرياً بقدر ما كانت تمارس مقاومةً باسلة، من أجل أن تنتصر لحق شعبها في الحياة. مقاومةٌ تستبطن شعارها البطولي: “لسنا بخير، ما لم نكن كلنا بخير.”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى