عذراً للشهيدة قسمة علي عمر … انه انهيار الرجولة، والحياد المزيف وانكسار للضمير

بقلم عبدالعزيز يعقوب

في زمن تزدحم فيه الأخبار بالصراعات والمآسي، أحيانًا تخرج من بين ركام الصور لحظة تصفع الضمير الإنساني بأقوى مما تفعل كل نشرات الأخبار. لحظة تُغلق الفم عن الكلام، لكنها تفتح القلب على صرخة لا تعرف الصمت. شاهدت مقطعًا لسيدة سودانية، الشهيدة قسمة علي عمر، من مدينة نيالا من قبيلة الزغاوة بحسب بعض المصادر الإعلامية ، راه العالم كله مربوطة اليدين إلى جذع شجرة، كما تُربط الأضاحي قبل الذبح، في مشهد يطعن في صميم الإنسانية قبل أن يكون طعنة في السياسة أو الحرب.

ذلك المشهد لم يكن مجرد فعل عنف عابر، بل كان إعلانًا فجًّا لانحطاط الذكورة حين تتحول إلى قناع زائف. رجولة تتفاخر بالبطش على النساء و إرعاب الأطفال واذلال الشيوخ، كأنها تريد أن تُثبت قوتها عبر ما يعتقد جنود ومرتزقة المليشيا أنها أي المرأة أضعف حلقة في المجتمع. أي قوة تلك التي تُقاس بالاعتداء على امرأة أعزل؟ وأي بطولة هذه التي تُعلَّق على أغصان شجرة بائسة تشهد على قهر الجسد والروح معًا؟

وقد ظهر وجه مشوّه لأحد الجنود في المقطع، كأنه مرآة لداخله الخاوي؛ تجاعيد الغلّ على جبينه لم تستطع أن تُخفي فراغ الروح الذي لا يملأه السلاح ولا يُخفيه الرصاص. فالرجولة، في معناها الأصيل، لا تُقاس بزمجرة البنادق، بل بقدرة الإنسان على كبح جماح العنف وحماية الضعفاء. هنا بالذات يفشل المسلحون، وهنا تنهار الرجولة أمام أول امتحان للضمير.

ورغم قتامة المشهد، ظهرت في وقت سابق من العام مقاطع أخرى لموقف من أحد قادة المليشيا (جلحة)، حين استهجن سلوك أحد جنوده “شارون” وهو يجرّ شيخًا وقورًا من لحيته البيضاء. قد يُقال إن الموقف كان عابرًا أو جاء محدودًا ومتأخرًا، لكن في سياق الانحطاط العام، بدا وكأنه بصيص نور في عتمة دامسة. لقد كشف أن الضمير، وإن خبا، يمكن أن يتململ بين الركام، وأن الرجولة الحقيقية، ولو للحظة، تجرؤ على قول “لا” في وجه الإهانة.

ومع ذلك، يبقى السؤال الموجع معلقًا بلا جواب، كيف يمكن أن يُحترم رجل يقيّد امرأة أعزل؟ كيف يُمحى عار إهانة الضعفاء بموقف عابر أو كلمة عابرة؟ هذا السؤال ليس فلسفيًا ولا جدليًا، بل سؤال وجداني يمسّ كرامة الإنسان السوداني بطول البلاد وعرضها في أبسط صورها ، امرأة مربوطة ومعلقة كالشاة المذبوحة، وشيخ مُهان، وضمير جمعي يتعرض للاختبار أمام مرآة الإنسانيّة وذاكرة التاريخ.

إن ما رأيناه ليس مجرد فيديو صادم على شاشة صغيرة؛ بل مرآة لانهيار منظومة قيم كاملة. مرآة تقول لنا إن الرجولة لا تُختبر في ساحات القتال وحدها، بل في كيفية تعاملنا مع الأضعف منا. وكل من يبرر أو يصمت أو يدعم مثل هذه الأفعال، يصبح شريكًا في جريمة أخلاقية، قبل أن يُحاسب في أي محكمة قانونية أو سياسية.

ثمة شعارات تُرفع لتُخفي عجزًا، أو لتُعطي غطاءً زائفًا لمواقف باهتة. شعار “لا للحرب” واحد منها. في ظاهره نداء نبيل ويتوافق مع الفطرة، لكن في جوهره، في السياق السوداني الراهن، صار أقرب إلى موقف مهادن مع المعتدي، ومُفرغ من معناه الأخلاقي. فحين تكون الحرب حربَ لانقلاب فاشل و مليشيا متمرّدة استباحت المدن وامتهنت كرامة الناس، فإن الحياد بين الجيش الوطني بعلاته والمليشيا ليس حيادًا، بل انحياز ناعم يصبّ في مصلحة المعتدي. إنه موقف من لا موقف له إزاء الانتهاكات الماثلة للعيان.

يأتيك أحدهم ليقول ” الجيش دمّر البنيات التحتية بالطائرات،” وكأن الجيش يقصف أهدافه على طريقة ألعاب الفيديو، لا على خرائط معقدة في معركة حقيقية! كأنما يريد أن يسوّي بين أخطاء عسكرية عرضية تقع في غبار المعركة، وبين جرائم متعمدة كالاستهداف الممنهج للمدنيين، والحصار، والدفن للأحياء والإذلال، وترويع الأطفال والاغتصاب، والنهب، وإذلال الشيوخ والنساء. أي ميزان هذا الذي يساوي بين من يدافع عن وطنه، وإن أخطأ في طريق القصف، وبين من جعل الإذلال سياسة ممنهجة والاستباحة نهجًا يوميًا؟

الناس الذين عادوا إلى مدنهم وقراهم بعد أن استعادت الدولة السيطرة، لم يعودوا لأنهم وثقوا في وعود المليشيا، بل لأنهم وثقوا في الدولة ونداءها ومؤسساتها وعودة الخدمات. ولو كانت المليشيا مسيطرة، لما عاد أحد، لأن الحضور في مناطق سيطرتها يعني الارتهان إلى الذل والقمع أو النزوح القسري.

أما المواطنون الذين بقوا في مناطق سيطرة المليشيا، فبقاؤهم لم يكن خيارًا حرًا؛ بل هو قيدٌ صنعته قلة الحيلة وضيق ذات اليد. من لا يملك ثمن الهروب، يضطر للبقاء أسيرًا في جغرافيا الخوف والندم.

إن شعار “لا للحرب” في هذا السياق، ليس دعوة للسلام، بل إغماض عين عن الجريمة. هو توازن زائف يساوي بين الجلاد والضحية، بين المخطئ والمجرم، بين جيشٍ وان كان له عيوب لكنه يحاول استعادة الدولة، ومليشيا قادت انقلاباً فاشلا لأنها لا ترى في الدولة إلا غنيمة. هذا الحياد البارد ليس سوى موقف رمادي، والرماد لا يبني أوطانًا.
العزاء لكل أهل السودان علي الشهيدة قسمة وربنا ينزل الصبر الجميل علي أهلها واصدقائها وكل النساء في بلادي.

Exit mobile version