في ما أرى
1
دفع دكتور عبد الله الفكي البشير إلى المكتبة السودانية والعربية والعالمية بواحد من أكثر كتاباته عمقاً وثراءً، جاء بعنوان: (أطروحات ما بعد التنمية الاقتصادية: التنمية حرية- محمود محمد طه وأمارتيا كومار سن – مقاربة، 2022). وقد صدر الكتاب في طبعتين خلال هذا العام، وتمت ترجمته إلى اللغة الإنجليزية ونشرت الطبعة الإنجليزية قبل نحو شهر. وكان عبد الله البشير قد قدم من قبل كتابه الأول: (محمود محمد طه والمثقفون: قراءة في المواقف وتزوير التاريخ، 2013)، ثم (محمود محمد طه وقضايا التهميش في السودان، 2021) إضافة إلى العديد من الدراسات والأوراق الثرة.
يقول د. عبد الله إن كتاباته تجيء ضمن مشروع بحثي، ينطلق من رؤية نقدية للإرث السياسي والفكري في السودان. عبد الله البشير شاب فريد في عصره، باحث مجيد قل نظيره في جيله، استطاع عبد الله أن يعيد تموضع الأستاذ محمود في الساحة الثقافية، بإعادة قراءة وتقديم أفكاره للأجيال الجديدة، بل للأجيال القديمة أيضا بصورة بديعة، وكشف جوانب من الأفكار العميقة التي سطرها في كتبه، والتي لم يدركها معاصروه من المثقفين السودانيين وحتى من قدامى المنتمين للفكر الجمهوري والباحثين فيه.
2
وعلى الرغم من أن عبد الله قد أوضح بأنه لم يلتق بالأستاذ محمود، وذكر في كتابه الأول ضمن محور “قصتي مع هذا الكتاب”، أنه حينما تم تنفيذ حكم الإعدام على الأستاذ محمود محمد طه، الذي يسميه عبدالله “تجسيد المعارف على منصة الإعدام”، كان تلميذاً في المرحلة المتوسطة، ولم تتح له الفرصة للقاء الحسي بالأستاذ محمود محمد طه، إلا أن ما قدمه من كتابات عن الفكر الجمهوري والسيرة الفكرية للأستاذ محمود محمد طه، يجعلنا أمام معاني ودلالات جديدة في الفضاء السوداني. هذه المعاني والدلالات الجديدة تتصل برؤى وتفكير الأجيال الجديدة في السودان. فجيل عبد الله لم يلتق بالأستاذ محمود محمد طه، ولم يتشرب المعاني منه، بل ورث سردية معادية لمشروعه الفكري، ذهب عبد الله كفاحاً إلى دار الوثائق القومية، كما فصَّل في كتبه، ليتعاطى مباشرة مع الأرشيف القومي في السودان. وبعد سنوات من البحث والتنقيب والتمحيص قدم سردية جديدة عن الأستاذ محمود محمد طه ومشروعه الفكري، قوامها، كما بيَّن، الالتزام بالأسس العلمية، والكشف عن الحقائق، نشر عبد الله في إطار هذه السردية الجديدة سبعة كتب، ولديه كتب على عتبات المطبعة، وأخرى تحت الإعداد، فضلاً عن العديد من الأوراق العلمية والمقالات والمحاضرات العامة.
3
للأسف أننا، قبل كتابات عبد الله، لم نكن نحفل كثيرا بأفكار الأستاذ طه الاجتماعية والسياسية، رغم أنها مبثوثة في كتبه العديدة، بل ولم ننتبه لأي من الرؤى النيرة التي طرحها الأستاذ محمود.. سدرنا في نقدنا لما نعتبره فساداً في عقيدة الأستاذ. كان للجدل المستعر في الجامعة في ثمانينيات القرن الماضي، والذي كان يتمحور حول كتاباته في الرسالة الثانية ورسالة الصلاة وغيرها، الدور الأعظم في ترسيخ تلك الصورة النمطية التي تكرست في أذهاننا.
لم نكن نتعرض، نحن الذين تربينا في حلقات نقاش الجمهوريين، بالنقاش لأفكار الأستاذ محمود، سوى تلك المتعلقة بآرائه الدينية المثيرة للجدل، والتي لم تكن كلها جديدة في الفكر الإسلامي. ورغم أننا كنا نقرأ وندرس نظريات وكتابات أغلب مفكري الغرب ونعتني بأفكارهم، من دون الاهتمام بعقائدهم، فلا أعرف ماذا دهانا وما منعنا من مد هذه الأريحية لنظريات وآراء الأستاذ محمود. تركنا خلفنا للأسف، عوالم من الأفكار الاجتماعية والسياسية، ظل الأستاذ طه يثري بها الساحة كما لم يفعل أحد حينها، سوى غريمه د. الترابى.
معلوم أن الصراعات المستعرة آنذاك في ثمانينيات القرن الماضي، لا تعتنى بالفكر أو الثقافة، إنما بالكسب السياسي الآني. ولذا حين بدأ الأستاذ أو الشاب عبد الله كتاباته في جريدة الأحداث، كتب (22) حلقة، ونشرها خلال الفترة (26 أغسطس 2010- 3 فبراير 2011)، وكانت بعنوان: (المثقفون ومحمود محمود طه)، بدأت أكتشف عوالم أخرى وأقانيم لم نعتد على رؤيتها أو الانتباه لها، في أطروحات الأستاذ طه. فتح عبد الله أعيننا على ما هو جديد وجدير بالانتباه في أطروحات الأستاذ محمود محمد طه. ومن هذا كتابه الجديد (التنمية حرية) لأمارتيا سن، الذي يقول عنه الكاتب الأردنى نبال خماش (كانت الفكرة الرائجة لدى علماء الاقتصاد على المستوى العالمي، أن الحريات هى انعكاس وثمرة طبيعية من ثمار التخطيط التنموى السليم، غير أن فكرة امارتيا سن، ذهبت إلى ما هو أبعد من هذه الأطروحة، فقد تعامل مع الحرية باعتبارها إحدى وسائل التنمية وأدواتها، وليس باعتبارها نتيجة من نتائجها.).
4
الكتاب عبارة عن مقاربة عميقة وواسعة، بين أطروحات عالم الاقتصاد والفيلسوف الهندى أمارتيا سن، الحائز على جائزة نوبل فى العلوم الاقتصادية 1998، وآراء الأستاذ محمود التي طرحها في خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي. ومما يزيد من قيمة الكتاب وأهميته أنه قدم مقارنة بين رؤية تجاه التنمية تبلورت عبر خبرة عملية طويلة في مجال الاقتصاد والتنمية، وقد تجاوزت الستة عقود، وهي تنطلق من العلم المادي التجريبي، ويمثلها أمارتيا سن، وقد قال عن نفسه بأنه “لا ديني”، والرؤية الثانية يمثلها الأستاذ محمود محمد طه وهو ينطلق من القرآن الكريم في مستوى آيات الأصول (الآيات المكية)، وهو يدعو للمزج بين العلمين المادي والروحي. وأوضح عبدالله بأن رؤية محمود محمد طه تجاه التنمية كانت سابقة لطرح لأماريتا وأكثر عمقاً وشمولاً.
يلخص عبد الله رؤية أمارتيا في كتابه (التنمية حرية) ] Development as Freedom والذى يعتبر أحد أشهر المفكرين التنمويين تاثيراً فى العصر الحديث، كما يعتبر أول ناقد عظيم للرأسمالية فى القرن العشرين، فيقول:
(يرى امارتيا أن الحرية هي غاية التنمية وهدفها الأسمى ووسيلتها الأساسية، وأن التنمية ما هي إلا عملية توسيع في الحريات الحقيقية التي يتمتع بها الناس، وأن الإنسان هو محورها وغايتها. والتنمية عنده لا تتحقق بزيادة الدخل فحسب، إنما عبر تعزيز قدرات الناس، فالقدرات تمكن من فرص الاختيار لصنع الحياة).
ويجمل الكاتب فكرة طه حول الإنسان والتنمية فيقول:
(الإنسان هو هدف التنمية وغايتها، والتنمية الاقتصادية بدون إعطاء العناية بالفرد وحريته مكان الصدارة منخذلة، ومنهزمة، وفاشلة منذ البداية، وهو يقول إن لنجاح التنمية لا بد.. لا بد من الحرية) وهو ذات قول أمارتيا سن (الحرية مركزية لعملية التنمية). ويضيف أن (البشر ليسوا مجرد وسائل إنتاج، بل هم أيضا الغاية من الإنتاج). بينما يشير طه إلى (أن الفرد البشري – امرأة كان أم رجلا – عاقلا أو مختل العقل – يجب ألا يتخذ وسيلة إلى غاية وراءه، وإنما هو الغاية التي تؤدى إليها جميع الوسائل).
5
ابتداءً من الفصل الثاني، يشرع الكاتب فى مقارنات تفصيلية بين أطروحات أمارتيا وطه، سنورد بعضها إضافة إلى آراء المفكرَين، التي تتقارب بشكل مدهش.. يبدأ عبد الله بالنظر في أطروحات طه وأمارتيا حول الديمقراطية، التي يقول عنها طه فى كتابه الرسالة الثانية، الصادر 1967 بأنها (ليست الإجراءات ولا الأجهزة الديمقراطية غاية في ذاتهاـ وإنما هى وسيلة وغاية وراءها… فليست الديمقراطية أن تكون لنا هيئة تشريعية، وهيئة تنفيذية وهيئة قضائية، وإنما جميع هذه وسائل لتحقيق كرامة الإنسان). ليقارنها بما طرحه امارتيا في كتابه المذكور أعلاه والصادر في العام 1999، حيث يقول: (ومع الإقرار بأهمية المؤسسات الديمقراطية، إلا أنه ليس بالإمكان اعتبارها أدوات تعمل آلياً من أجل التنمية والتطوير، فاستخدام المؤسسات الديمقراطية مشروط بما نؤمن به من قيم وأولويات، وباستثمار للفرص المتاحة للتعبير والمشاركة). ويؤكد أمارتيا (أن التحدي الأساسي اليوم أمام الناس في كل أنحاء العالم، ليس مقصوراً فقط على أن تستبدل نظم الحكم التسلطية بنظم حكم ديمقراطية، إذ يتعين بعد هذا كله، تفعيل دور الديمقراطية لمصلحة الناس العاديين). ويضيف امارتيا أن إنجازات الديمقراطية لا تتوقف فقط على القواعد والإجراءات التي يتبناها ويكفلها المجتمع، بل أيضاً على طريقة استخدام المواطنين للفرص) . يؤكدأمارتيا (لم تحدث قط مجاعة فى أي بلد مستقل يحظى بنظام حكم ديمقراطي وصحافة حرة نسبياً، ولم تقع مجاعات فى بلد مستقل يجري انتخابات بشكل منتظم ولديه أحزاب معارضة تعبر صراحة عن انتقاداتها). ويمضى قائلاً (الديمقرطية ليست علاجا للملاريا، ولكنها تمنح الفرصة للنقاش والانتقاد لجعل المشكلة أمراً عاماً، وتوحد المسئولية حول حلها، لذا فهى البداية المنطقية والفاعلة). ثم عرض أمارتيا نماذج لكثير من الدول التي حدثت فيها مجاعات.
وفى ذات المنحى يدعو طه (1955) إلى الديمقراطية الشعبية، والتى يعرفها (انها حكم الشعب بواسطة الشعب لمصلحة الشعب، ونقدر أن تحقيقها أمر عسير لأنه يقتضي شرطين: الأول أن تصدر القرارات الخاصة بإدارة شئون الدولة بإجماع أفرادها، والثانى أن يشترك جميع أفراد الشعب في مباشرة السيادة داخل الدولة، حتى يكون الحكام هم المحكومين). ويؤكد طه أن (الديمقراطية وسيلة لإنجاب الأحرار من العبيد والفوضويين، وهي صنو الاشتراكية، ولا خير في أيهما من غير الأخرى، فإن الاشتراكية إذا طبقت تحت حكم ديكتاتوري لا تربي غير العبيد). والعبد، عند طه,
6
يقارن الكاتب بين آراء الأستاذ محمود، فيورد آراء طه حول الشيوعية التي يقول عنها، إنها (جعلت الفرد وسيلة المجتمع، فأهدرت قيمته وحريته وحقه، وأقامت نظامها على القهر والعنف، وعلى ديكتاتورية الدولة). بينما يصف أمارتيا سن الاقتصاديات الشيوعية بأنها (الطريق للعبودية)، موافقاً مقولة المفكر النمساوى فريدريك هايك، الذي قال إنه (يتعين عند تقدير ما حدث، أن نعترف بقصور فعالية النظام الشيوعي. ولكن ثمة أيضا قضية مباشرة أكثر، ألا وهي غياب الحرية داخل نظام ألغى الأسواق فى كثير من مجالات النشاط، كما يمكن ألا يسمح للناس بدخول الأسواق حتى وإن وجدت.).
7
بعد سيل من المقارنات والمقاربات بين أطروحتي طه وأمارتيا، ينتابك إحساس بأن ما يسعى أو يهدف إليه عبد الله البشير من تتبعه الدقيق لأطروحات سن، التي ظهرت إلى العالم في نهايات القرن العشرين، بينما كتابات الأستاذ طه كانت متوفرة ومنشورة، بل ومترجمة كما أثبت الكاتب ذلك، ينتباك إحساس بأن الهدف هو إثبات أن أمارتيا سن وهو من هو، قد نظر في أفكار الأستاذ محمود، واستل أطروحته تلك (ولا نقول سرقها)، وكذلك معها كثير من الأفكار التي أوردها في كتابه (التنمية حرية). إلا أن ذلك الإحساس يبدده الكاتب بنفسه حين يعزى ذلك التقارب في الآراء، إلى ما أسماه (لقاء العقول الكبيرة)، الأمر الذى يجعلنا لا نستغرب معه أن تنتج أفكار متقاربة. لقد أفلح الكاتب في تسليط أضواء كثيفة على جوانب اقتصادية وتنموية من فكر الأستاذ طه، كانت مخفية ولم ينتبه إليها حتى الاقتصاديون السودانيون، ولا أي من حوارييه. إنه كتاب جدير بالاقتناء والاطلاع، وكاتب جدير بالاحترام. شكرا د. عبد الله على هذا الجهد الرائع.