عابد.. اللستك

بابكر إسماعيل
ولد عابد في منتصف تسعينات القرن الماضي، والده الفاتح ووالدته سعاد تخرّجا في كلية الاقتصاد بجامعة الخرطوم في منتصف ثمانينات القرن الماضي ..
وعمل الفاتح في وزارة المالية وعملت سعاد ببنك الخرطوم ..
مثل كل جيله تعلم عابد في مدارس خاصة وتخرج في العام ٢٠١٦ حيث نال دبلوم علوم الحاسوب من جامعة بحري ..
.. وحتي قيام ثورة ديسمبر لم يتحصل عابد علي أيّ وظيفة ثابتة ..
تحمس عابد للثورة .. وانفعل بها وشهد اعتصام القيادة ولكنه كان بعيداً في ليلة فض الاعتصام .. فقد ذهب والداه إلي عمرة رمضان كعادتهما السنوية وكان عليه الحضور كلّ ليلة للتأكد من ملء صهريج الماء وإيقاد أنوار المنزل وكان اليوم التالي هو أول أيام عيد الفطر المبارك وتذكّر أنّ الوالدة كلّفته ببعض الأعمال المنزلية إستعداداً للعيد وبعد إنجازه لتلك المهام أحسّ عابد بإرهاق وقرّر عدم العودة للمبيت في خيمته أمام قيادة الجيش ..
كان عابد أول المتظاهرين حضوراً في المليونيات .. وصار أحد ملوك الاشتباك المشهورين لجرأته وشجاعته ..
فقد أشعل عابد بمفرده ما لايقل عن خمسين لستكاً .. حتي لقّبه أصدقاؤه ب “عابد اللستك” ..
كان يوقد عابد اللستك ثم يستمتع بالدخان الكثيف المتصاعد إلي أعلي بميلان حادّ ..
حيث تتداخل كتل الدخان المتكوّرة في سيرها نحو الأعلي .. ويتابع عابد هذه الكتل الدخانية الصاعدة في خشوع حتي تتلاشي ..
ثم يوجّه أنظاره إلي ألسنة اللهب التي تذيب اللستك .. ويبدأ هيكل اللستك الداخلي المتكوّن من الأسلاك في البروز شيئاً فشيئاً كأنها عظام نزع عنها اللحم ..
وتنعكس الأضواء الصادرة عن لهيب نيران اللستك علي وجه عابد فتري في عينيه بريقاً لامعاً وخشوعاً هامساً ..
فيتمتم بصوت خفيض:
المجد للساتك ..
ولكل من أشعل اللساتك ناراً واشتعل ..
أها هيا أهاهيا ..،
وبمرور الشهور انخفضت وتيرة الاحتجاجات اليومية وخبأ وميض الثورة وصارت المليونيات هزيلة .. ولكنّ حبّ اللساتك كان قد تعاظم في قلب عابد وملك كلّ جنانه ..
وذات ليلة قرّر عابد الحصول علي اللستك الذي قام جارهم عوض الزين بتثبيته علي زاوية منزله الناصية ليمنع مرور الحافلات والركشات قريباً من حائط المنزل في موسم الأمطار ..
وتسلق عابد سور دارهم عند الثانية صباحاً .. وقفز منه إلي خارج المنزل والصق ظهره وذراعيه ويديه بالحائط وهو يسير بهدوء .. ويخطو نحو اليمين خطوة ثمّ يلتفت يمنة ويساراً .. حتي وصل لبوابة منزل عوض الزين ذات الثلاث دِرف فجلس القرفصاء أمامها وظهره علي بعد مسافة صغيرة منها حتي لا يلامس الباب فتحدث الترابيس صوتاً ينبّه أهل الدار ..
ثمّ صار يرفع مؤخرته عن الأرض بهدوء أمام البوابة ويخطو بيديه الداعمتين علي الأرض مقدار خطوة نحو اليمين حتي وجد نفسه علي بعد نحو متر من اللستك محبوبه الغالي ..
فمدّ ذراعيه وأمسك اللستك وصار يجرّ جسده علي الأرض نحو اللستك حتي استقرّ جالساً في تجويف اللستك الذي انغرز ثلثه في الأرض وأحني عابد رأسه وأعلي ظهره حتي تكوّر كامل جسده في تجويف اللستك ..
وصار يخرج يديه خارج التجويف ليحضن اللستك ويقبّله ويشمّه بشوق .. ثمّ أخرج رأسه من تجويف اللستك وتمدّد بحيث صار نصف جسمه امام اللستك والنصف الإخر خلفه وهو يردد وهو يلهث بشوق
المجد للساتك ..
المجد للساتك ..
ويرفع وسط جسمه ويخفضه ..
حتي أنهكه التعب ..
فخرّ ساجداً وأناب ..
وانهمرت دموع عينيه حتّي بلّلت التراب ..
ثمّ نهض عابد اللستك واقفاً ..
وبدأ ينزع اللستك من الأرض وتمكن بعد لأي من أن يحرّره من الحفرة التي غُرس فيها ..
وتسلّق جدار بيتهم عائداً وهو يحضن لستكه المعبود ..
أهاهيا أهاهيا …
أدخل عابد اللستك غرفته بهدوء وحرص ألا يوقظ أخاه الأصغر مؤمن الذي كان يغط في نوم عميق بعد أن أعياه السهر وهو يلعب علي الإكس بوكس ..
وضع عابد اللستك تحت سريره ..
وصار عابد يمارس طقوسه كل ليلة بعد نوم أخيه مؤمن ..
فيضع اللستك أمامه، ويردّد وهو ساجد:
“المجد للساتك – ثلاث مرّات” ..
ثمّ يرفع رأسه ويسجد ثانية ..
ويردد ثلاث مرات كذلك
” المسجد للساتك ..
المجد للساتك ..
المجد للساتك ..”
ثمّ يسلّم عن يمينه علي المتاريس
وعن يساره علي كلّ من أشعل اللساتك ناراً واشتعل ..
يؤدي صلاته هذه قبل النوم كلّ ليلة ..
ومضت الأيام وهو علي هذا الحال إلي أن قامت لجنة إزالة التمكين بفصل والده ووالدته من وظائفهما بعد عودتهما من عمرة رمضان في العام التالي ..
وكانت هذه طامّة كبري ألمت بعابد اللستك ووقع الخبر عليه وقع الصاعقة ..
وقضي عابد الليالي كلّها أمام اللستك وهو يبكي وينتحب .. ثمّ يتوقف عن البكاء لهنيهة ويردد في صوت خفيض يائس:
المجد للساتك ولمن أشعل اللساتك ناراً واشتعل ..
أها هيا ..
أها هيا ..
سمعت سعاد أنّ مجموعة من شباب الحي قد سافر إلي أوروبا عبر ليبيا .. واتفقت مع والده الفاتح أن تبيع ذهبها حتي يسافر عابد إلي أوروبا ليبدأ حياة جديدة هنالك ..
وبعد أسبوع كان عابد اللستك قد حزم أمره وقرّر السفر إلي أوروبا عبر ليبيا ..
وبنهاية الأسبوع رتّب عابد أموره وحزمت له والدته حقيبة السفر وحقيبة أخري بها زوادة من الكعك والتمر والطحنية التي يحبّها كثيراً ..
ولم ينس عابد أن يأخذ قطعة صغيرة من لستك جواني بحجم المنديل القماشي لفّها بعناية ثم وضعها في حقيبة يدوية صغيرة بها أوراقه الثبوتية والنقود ..
وكان من دواعي سرور عابد اللستك أن رحلة عبور البحر الأبيض المتوسط قد تمت عبر زورق مطاطي ضخم يشبه لستك الجرار الخلفي.
وفي خلال الرحلة وكلّما علا الموج أو هبّت الريح .. تحسّس عابد لستكه الجواني وهو يتمتم بسرعة واضطراب:
المجد للساتك ..
المجد للساتك ..
فيهدأ القارب اللستكي..
وتبطيء الرياح هبوبها ..
فيبتسم عابد اللستك ..
وهو يردد مبتهجاً:
أها هيا أها هيا …
وكان البحر هادئاً طوال الرحلة ووصلوا الشواطيء الأوربية بسلام ..
وصل أخيراً عابد اللستك إلي بريطانيا وجهته النهائية ..
وعند نزوله من القارب وبعد اكتمال إجراءات لجوئه مع السلطات البريطانية اشتري عابد لستكاً صغيراً من أوّل بنشر رآه .. وحمله مع متاعه إلي مدينة لندن ..
وعند وصوله إلي مدينة لندن ..
توجّه إلي الساحة الخضراء الفسيحة التي تقع أمام مبني البرلمان في ناحية ويستمينستر
وأخرج ولاعة وقارورة بلاستيكية صغيرة بها نصف لتر من البنزين كان يحملها ..
وبلّل اللستك بالبنزين وأشعل النار في اللستك الذي اشتعل ناراً حامية وتصاعد دخانه إلي أعلي وتراقص اللهب أمام ساحة البرلمان .. ولم يتمالك عابد اللستك نفسه ..
ورفع عقيرته بالصياح:
المجدّ للساتك ..
المجد للساتك ..
المجد للمتاريس..
ولمن أشعل اللساتك ناراً واشتعل ..
فهرع رجال شرطة إسكوتلاند يارد المدججون بالسلاح والتيزرات نحوه وهو لا زال يردد تسابيحه بصوت عالٍ وعندما رأي رجال الشرطة يهرولون نحوه صار يهتف:
المجد لبريطانيا ..
المجد للملك تشارلس .. اللستك
مدنيااااو .. مدنياااو
فهجم عليه خمسة من رجال شرطة اسكوتلاند يارد عتاة الأجسام فطرحوه أرضاً وقيّدوه وهو يصيح هائجاً :
مدنيااااو ..
مدنياااو ..
كنداكة جا ..
بوليس جري ..
لن يحكمنا العسكر ..
ودعامة أولاد حرام
المجد لأها هيا ..
وي .. وي .. وي ..
وظهرت سيارة إطفاء مسرعة وقفت قرب اللستك وقامت بإطفاء النار ..وسكن الدخان المتصاعد نحو الأعلي ..
وبرزت قليل من أسلاك اللستك الدُعامية ..
كأسنان صبي ضاحك .. ينظر لعابد اللستك المصفّد بأغلال الشرطة البريطانية..
وتمّ إيداع عابد اللستك في أحد مشافي الصحة النفسية في العاصمة لندن بعد التحقيق معه ومحاكمته ..
وعابد الآن يكمل دراسة علوم الحاسوب في إحدي جامعات لندن المرموقة ..
وقد عاد إلي دين أبائه الفاتح وسعاد ..
بعد تلك اللوثة اللستكية
وهو ينظر الآن للمستقبل الواعد بأمل كبير ..