رأي

ضربة لإيران أم فرصة لها؟ حين تتبدل الوظائف وتسقط الأقنعة

 

عبدالعزيز يعقوب

يطالب دونالد ترمب إيران بأن “توافق على السلام”، بينما تهدر الطائرات في السماء وتُمطر الأرض نارًا لا غيثًا. يلوّح بغصن الزيتون من منصة بيانه السياسي، لكنه يُخفي خلف الستار صواريخ موجّهة لا تفرّق بين مفاعل ومأوى للصغار او العجزة ، بين خصم سياسي وجسد مدني، بين منشأة نووية وجنين في رحم أمه في جنوب العراق أو أطراف الخليج. السلام الذي يُقدَّم على صهوة المقاتلات لا يُنبت سوى الكراهية، ولا يخلّف وراءه سوى خرائط مبتورة وطفولة ملوثة باليتم والغبار المشع.

 

في الأيام الماضية، حبس العالم أنفاسه بعد أن تهديد القوات الأمريكية والإسرائيلية بضرب المنشآت النووية الإيرانية ، وقد حدث بالفعل بالأمس ٢١ يونيو.

لكن المفاجأة كانت أن الضربة وقعت دون أن تخلّف وراءها أي انفجار نووي أو تسرب إشعاعي، خلافًا لكل التحذيرات والسيناريوهات الكارثية التي ملأت التحليلات. لم تتصاعد سُحُب مشعّة، ولم تنبعث نُذُر فوكوشيما جديدة فوق الخليج.

 

فما الذي جرى؟

هل كانت الضربة دقيقة إلى هذا الحد؟

أم أن إيران فرّغت المنشآت سلفًا؟ أم تم ذلك باتفاق ؟؟

أم أن المشروع النووي ذاته لم يكن في مرحلة حساسة تستدعي الانفجار؟

 

مهما يكن الجواب، فإن الرسالة التي أرادتها واشنطن قد وصلت، نستطيع أن نضربك متى نشاء، دون أن نثير ضجة عالمية أو نُشعل حربًا شاملة.

ضربة بدون كارثة، لكنها محمّلة بكل أدوات الحرب النفسية والرمزية. ضربة تشبه “طرق الباب” لا كسره، لكنها تقول كل شيء بلغة الحديد ، أنتَ تحت المراقبة، وتحت السيطرة، وتحت سقفنا.

 

ليست ضربات ترمب مجرد استعراض عضلات انتخابي، بل زلازل جيوسياسية تُلقي بأمواجها على شعوب لم تُستشر، ولم يُسمح لها حتى بأن ترفع رأسها لتسأل: لماذا الآن؟ ومع تصاعد المواجهة مع طهران، بدا أن المنطقة على شفا كارثة نووية، وأن منشآت نطنز وفوردو وأراك قد تتحول إلى شظايا مشعة، يُحمل رمادها في رياح الخليج والشام وبوادي العراق.

 

غير أن الضربة، على ما يبدو، كانت محسوبة لا لتُفجر بل لتُذكّر. ضربة سياسية أكثر منها عسكرية، مصمّمة لإعادة تشكيل ميزان الهيبة، وإعادة إيران إلى الطاولة من موقع أضعف، أو أكثر حذرًا. وهنا يتحول القصف من أداة تدمير إلى أداة تفاوض، رسالة هادئة بصوت طائرات.

 

وفي هذا المناخ، يطفو على السطح سؤال مستفز للعقل السياسي،هل يكذب ترمب كما كذب جورج بوش حين زعم امتلاك العراق أسلحة دمار شامل؟

الحقيقة أن ترمب لا يختلق وجود اليورانيوم في إيران، إذ إن طهران لا تُنكر تخصيبه. غير أن الفرق بين الحقيقة والوظيفة هو ما يصنع الحرب. فما يفعله ترمب يشبه ما فعله بوش، لا من حيث الكذب الصريح، بل من حيث التوظيف العدواني لنصف الحقيقة. لا يبحث عن دليل، بل عن ذريعة. لا يريد الحقيقة، بل النتيجة التي تُسوّق لجمهوره الانتخابي.

 

وفي قلب هذه التناقضات، ينبثق سؤال أشد خطورة، هل يُمكن أن تقرأ طهران هذه الضربة، برغم محدوديتها، كضوء أخضر لضرب إسرائيل؟

إسرائيل، التي طالما كانت رأس الحربة في التحريض على البرنامج النووي الإيراني، قد تجد نفسها فجأة في مرمى ردٍّ مدروس لا يستهدف فناؤها بل كسر صورتها الردعية. فإذا ردّت إيران على إسرائيل بدلًا من أمريكا، فهل ستقف واشنطن مكتوفة اليدين؟ أم تراقب من خلف الستار وقد ترى في “الاحتراق الجزئي” لتل أبيب فرصة لإعادة ترتيب الأدوار؟ فإسرائيل، التي أدّت دورها الوظيفي كشرطي للمنطقة، بدأت تتحول تدريجيًا في بعض العواصم الغربية من أداة نافعة إلى عبء سياسي وأخلاقي.

 

ومع هذا التحول، يلوح احتمال أعظم ، أن تتحول إيران، بعد الضربة والردّ، إلى شريك وظيفي جديد في منظومة الهيمنة الغربية.

فإذا تراجعت إسرائيل، أو انكشفت هشاشتها، فقد ترى واشنطن في إيران – برغم العداء التاريخي – قوة قابلة للترويض، أو شريكًا يمكنه ضبط الإقليم دون أن يتحداه. العداوة لا تمنع الشراكة، والتاريخ السياسي مليء بالأمثلة التي تحوّل فيها العدو إلى وكيل، حين تتقاطع المصالح لا القيم.”تحالف أمريكي روسي بريطاني ضد هتلر”.

فالمطلوب في نظر واشنطن ليس حليفًا مثاليًا، بل من يضبط النيران دون إشعال الفوضى. وإذا أثبتت طهران قدرتها على الردّ المنضبط، والتفاوض بعد الضربة، فقد تكون بذلك أثبتت أهليتها للدور الجديد، البديل الصاعد، حين تسقط الوظائف وتُستبدل الأقنعة.

يبقى السؤال معلّقًا في وجدان كل عاقل هل الدول العربية راضية بأن ينوبها من هذه الحرب الغبار الذري؟ أم تراها غائبة عن وعي اللحظة، صامتة لا خشيةً من الحرب بل لأن أحدًا لم يدعُها للمائدة؟

فالإشعاع لا يفرّق بين سنّي وشيعي، بين ممانع ومطبّع، بين عاصمة مشغولة بالدبلوماسية أو عاصمة غارقة في العجز.

الهواء حين يُلوَّث لا ينتظر إذن الحدود، والماء لا يحمل جواز سفر. والطفولة حين تُضرب في الرحم لا تعرف من القاتل، بل تحمل آثاره عمرًا كاملًا.

 

ليست هذه دعوة للوقوف مع إيران، ولا للتصفيق لترمب، بل نداء للعقل العربي أن يستفيق قبل أن يُحاصر الوطن من كل الجهات، من السماء بقطع الغيوم المشعّة، ومن الأرض بتصحر الوعي، ومن المستقبل بأجيال تحمل أمراض الحروب التي لم تخضها، لكنها دفعت ثمنها في صمت القبور.

 

في زمن الغطرسة العسكرية وتبدل الأقنعة، وحده صوت العقل – إذا نجا من الصمت – قادر على النجاة.

فهل من عاصمة عربية تجرؤ أن تقول لترمب: لا نريد سلامك المشع، ولا ضربة بلا صوت… بل نريد حياة لا تُقاس بمستوى التلوث، ولا تُشترى بوظيفة لدى من يتحكم بمسرح الظلال؟

وهل تدرك الشعوب أن ما يُسوّق كضربة لإيران، قد يكون فرصة عمرها لتكون سيد اللعبة، بعد أن أُتعب اللاعب القديم؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى