رأي

شريعة الانتقام أم شريعة العدالة؟ فرض مبدأ المسؤولية القيادية في حرب السودان

 أمجد فريد الطيب

أطلقت الحرب المستمرة في السودان سيلاً من المعاناة الإنسانية، اتسمت بفظائع غير مسبوقة في حجمها وشدتها. وبينما غالباً ما يُقابل هذا الكم الهائل من الانتهاكات بالإدانات الخطابية، فإن الوصول إلى حل عادل ودائم يتطلب استجابة أكثر صرامة: فرض مبدأ “المسؤولية القيادية” على القادة العسكريين.

من الضروري تجاوز السطحية المتمثلة في محاكمة الجنود المنفذين فقط، والسعي لمحاسبة من يقفون على قمة الهرم العسكري، لأنهم المستفيدون الحقيقيون من هذه الجرائم والمشاركون الضمنيون فيها، بصمتهم أو تقاعسهم عن المنع والمعاقبة. فالمحاسبة لا بد أن تتصاعد صعودًا على سلم القيادة، وإلا سنستمر في معالجة العَرَض ونتجاهل السبب.

مارست قوات الدعم السريع، من بين جرائم أخرى، ما اعتُبر على نطاق واسع، ومن قبل جهات عدة من بينها الحكومة الأمريكية، إبادة جماعية ضد مجتمعات سودانية. استخدمت الاغتصابات والعنف الجنسي بشكل ممنهج في الخرطوم والجزيرة ودارفور كأداة إذلال وترويع، إلى جانب نهب واسع النطاق واحتلال المنازل المدنية، معلنين صراحة نيتهم مصادرة ملكيات سكانها نهائيًا. كما شملت الانتهاكات تحويل المستشفيات والمدارس ومرافق الخدمات المدنية إلى قواعد عسكرية. استخدمت قوات الدعم السريع التجويع كسلاح، وجندت الأطفال قسرًا، واستهدفت البنية التحتية الحيوية مثل السدود ومحطات الكهرباء. ولم تسلم مستودعات المساعدات الإنسانية من النهب، بما فيها منشآت برنامج الغذاء العالمي واليونيسف. أما المعتقلات السرية التي كشفت عنها القوات المسلحة السودانية فقد كشفت عن احتجاز الآلاف من المدنيين في ظروف لا إنسانية، مات كثيرون منهم قبل تحريرهم.

ولا ينبغي أن نغفل مسؤولية الفاعلين الخارجيين. فقد استمرت الإمارات العربية المتحدة في مدّ قوات الدعم السريع بالأسلحة، ما ساهم مباشرة في تمكينها من ارتكاب هذه الجرائم. ولم تكتفِ بذلك، بل استخدمت نفوذها الإقليمي والدولي لحماية الدعم السريع من المحاسبة، مقدّمة نفسها كوسيط سلام “محايد”، رغم الأدلة الدامغة على تواطئها المباشر.

أما القوات المسلحة السودانية، فرغم أنها لم تسلم من التهم والانتهاكات، من قصف عشوائي، إلى اعتقالات تعسفية، إلى مزاعم باستخدام أسلحة كيميائية، فإنها، بحكم كونها مؤسسة هرمية ومنضوية ضمن هيكل الدولة، تمتلك – من حيث المبدأ – القدرة على التحقيق والمحاسبة. غير أن هذا الافتراض لا يكفي وحده. فلا بد من تطبيق صارم لمبدأ “المسؤولية القيادية” لضمان عدالة شاملة.

ثلاثية المسؤولية القيادية
يقوم مبدأ المسؤولية القيادية على ثلاث ركائز:

العلاقة الهرمية: يجب إثبات وجود علاقة قيادية واضحة بين القائد والمرتكبين.

العلم: يجب أن يكون لدى القائد علم فعلي بالجريمة أو كان عليه أن يعلم بناءً على السياق.

الفشل في الردع أو العقاب: أن يكون القائد قد تقاعس عن منع الجريمة أو معاقبة مرتكبيها.

العدالة لا تكون بدون محاسبة القادة
استمرار الفظائع والمجازر، وتورط الداعمين الخارجيين، يعكس فشلًا جوهريًا في فرض مبدأ المسؤولية القيادية. فعلى الرغم من تكرار الحديث عن العدالة الانتقالية في السودان، لم يتم تضمين هذا المبدأ بشكل فعلي في المفاوضات السياسية. فالاتفاق الإطاري وما تبعه من وثائق – التي كانت ثمرة تفاوض بين قوى الحرية والتغيير والقيادات العسكرية، بدعم دولي كبير خاصة من الولايات المتحدة ومساعدة مساعد وزير الخارجية الأمريكية السابقة مولي في – احتوت على بنود تعفي القادة العسكريين من المساءلة، طالما لم يصدروا أوامر مباشرة. وهذا يعاكس جوهر مبدأ المسؤولية القيادية، الذي يحمّل القائد مسؤولية أفعال مرؤوسيه إذا علم بها أو كان يجب أن يعلم.

هذا المبدأ ليس بجديد. فقد نُص عليه في اتفاقيات جنيف (1949) وبروتوكولاتها، كما ورد صراحة في المادة 28 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (1998). وقد جرى تطبيقه في محاكمات نورمبرغ وطوكيو، كما وُظّف بفعالية في محكمتي يوغوسلافيا ورواندا.

لكن، في السياق السوداني، جرى تجاهل هذا المبدأ، بل والسعي لإعفاء القادة العسكريين من المحاسبة، مما خلق بيئة خصبة للإفلات من العقاب. وشجّع ذلك قادة الدعم السريع على ارتكاب جرائم ممنهجة، كالتطهير العرقي والاغتصاب والنهب، لتصبح أدوات للترويع والتجنيد، ومن ثم للارتقاء السياسي.

وإعلان تحالف تأسيس في 1 يوليو، بقيادة حميدتي ونائبه عبد العزيز الحلو، يوضح كيف يتحول الإفلات من العقاب إلى منصة سياسية. أن يسعى قائد متهم بالإبادة والاغتصاب والتهجير إلى تقديم نفسه كفاعل سياسي طبيعي ليس مفارقة فقط، بل نتيجة مباشرة لفشل دولي في فرض مبدأ المسؤولية. الأخطر أن التحالف يضم شخصيات سياسية بارزة، من بينهم الطيب تاي الله، وزير العدل السابق نصر الدين عبد الباري، ورئيس حزب الأمة فضل الله برمة ناصر، بالإضافة إلى شخصيات من النظام البائد مثل إبراهيم الميرغني. مشاركتهم الفعلية تعكس انخراطهم في مشروع سياسي قائم على العنف والقتل، وليست مجرد رمزية.

التواطؤ السياسي: مسؤولية أفقية للمحاسبة
لا بد أن يشمل مبدأ المسؤولية القيادية القادة السياسيين الذين يشرعنون أو يستفيدون من هذه الجرائم. حين يصافح السياسيون من تلطخت أيديهم بدماء الضحايا، فهم يرسّخون العنف كأداة للوصول إلى السلطة. ومع صمت المجتمع الدولي، بل وتعامله مع هذه التحالفات، تصبح العدالة مجرد شعار فارغ.

كسر دورة العنف في السودان يتطلب فرض المسؤولية القيادية عموديًا داخل الهياكل العسكرية، وأفقيًا بين القوى السياسية المتواطئة.

إخفاق دولي في مواجهة الحقيقة
المجتمع الدولي لا يُعفى من مسؤوليته. ففي 2024، استضافت الولايات المتحدة وفدًا من قوات الدعم السريع بجنيف في مفاوضات سلام، رغم توثيق مقتل أكثر من 650 مدنيًا سودانيًا بالقصف خلال نفس الفترة. بل إن المبعوث الأمريكي توم بيرييلو أشاد بالتزام الدعم السريع بـ”مدونة سلوك”! وفي مايو 2023، أدان السفير الأمريكي جون غودفري حوادث الاغتصاب دون تسمية الجناة، في تغريدة عمومية وغامضة. هذا التواطؤ الخطابي يمنح غطاءً للمجرمين ويكرس الإفلات من العقاب.

محاكمة الجنود المنفذين فقط دون قادتهم ليست عدالة، بل شكل من أشكال “لوم الضحية”، خصوصًا وأن العديد منهم جرى تجنيدهم تحت ظروف اجتماعية واقتصادية قاسية، ليصبحوا أدوات في يد قادتهم.

العدالة الحقيقية ليست انتقائية، بل شاملة وعاقلة. ولا تكتفي بمحاسبة منفذي الجرائم، بل تطال من استخدموهم كوسيلة لبلوغ السلطة.

تحرك قانوني واعد: الولاية القضائية العالمية
في أبريل 2025، نشرت صحيفة الغارديان تقريرًا عن ملف قانوني من 142 صفحة سُلِّم إلى وحدة جرائم الحرب في سكوتلاند يارد، يوثق جرائم قتل وتعذيب وعنف جنسي ارتكبته قوات الدعم السريع. ويطالب الملف بإحالة قادة الدعم السريع ومموليهم الخارجيين إلى المحكمة الجنائية الدولية، استنادًا إلى مبدأ “الولاية القضائية العالمية” الذي يجيز لبريطانيا مقاضاة من ارتكب جرائم جسيمة، بغض النظر عن مكان وقوعها أو جنسية مرتكبيها أو ضحاياها. هذه خطوة واعدة نحو كسر حلقة الإفلات من العقاب، ومثال على كيفية استخدام أدوات القانون الدولي لفرض العدالة.

نداء إلى المجتمع الدولي: من أجل التزام مبدئي بالعدالة
تُعدّ الأزمة السودانية اختبارًا أخلاقيًا وقانونيًا حاسمًا للمجتمع الدولي. فاستمرار الجرائم بدعم خارجي وبثقافة الإفلات من العقاب يتطلب نهجًا جديدًا قائمًا على المبادئ، لا على المساومات. لا يكفي الإدانة أو تقديم المعونات؛ بل يجب فرض المحاسبة على من يقودون ويرتكبون ويستفيدون من الجرائم.

التمسك بمبدأ المسؤولية القيادية، وتطبيقه بحزم في ساحات القضاء والسياسة والدبلوماسية، هو السبيل الوحيد إلى سلام حقيقي. أما دون ذلك، فكل هدنة ستكون مجرد استراحة، وكل تفاوض مجرد تأجيل للعدالة.

ولن ينعم السودان بالاستقرار إلا إذا أُدخل مبدأ المسؤولية القيادية إلى وعيه القانوني والسياسي. فدون ذلك، سيظل طريق السلطة مرصوفًا بالدماء، وستبقى العدالة شعارًا أجوف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى