رأي

رجال حول القوات المسلحة (28) .. العميد الركن جعفر الطاهر…. رجل من طراز فريد

 

العميد م. د. محمد الزين محمد 

في صمت الكبار، حيث لا يعلو الصوت إلا في ساحات المواجهة، ارتقى العميد الركن جعفر الطاهر خلف الله شهيدا، وهو على رأس عمله في إدارة الاستطلاع بالقيادة العامة، ممسكا براية لم يعرف كيف تُسقط، ولم يسمح لها أن تُنكّس، ارتقى كما عاش: صلبا، وفيا، متبتلا لله.

وُلد الشهيد في قرية الحجير الواقعة في الولاية الشمالية، تلك الأرض التي تنبت الرجال كما تنبت النخل، وتُرضع أبناءها الصبر كما تُرضعهم الماء الزلال. لم يُكمل جعفر عامه الثامن حين فقد والده، فاحتضنته والدته، الحاجة السيدة، التي حفرت بيديها التراب وزرعته، وعجنت الكرامة بالصبر، وكانت رغم أميّتها ذات قلب مفتوح على الله، ولسان يفيض دعاءً وشعرًا. كانت تبتهل إذا ضاق الحال، وتنشد للمصطفى صلى الله عليه وسلم من فيوضات قلبها، وذات مرة نادتها أختها وأوقفها طاقم طائرة على سلّمها بعد هبطت بالمدينة المنورة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام. وقالوا: السيدة… انزلي!، فما كان منها إلا أن صدحت بإنشاد روحي يهزّ الأنفس.

هناك في الحجير، حيث الخيل والمطمور، والكرم والعشم، والنخيل، ودماء الجدود التي ما جفّت يومًا عن ميادين الفداء، تشكّلت أولى ملامح جعفر، وخرج من صلب قوم قال عنهم شعراؤهم:

نحن الفاكهة والنخل الصبيطو ردم

ونحن الخيل ملا المطمور

ونحن عطاء ونحن عشم

ﻧﺤﻦ ﻓﺮﺣﻨﺎ ﺑﺎﻟﺴﻴﺮﺓ ﺍﻟـ ﻣﻊ

ﺍﻟﺠﻨﻴﺎﺕ ﻃﺒﻮﻝ ﻭﻧﻐﻢ

نحن إبل خيول عربية سيوف وسهم

ونحن جهاد ونحن قتال عيون

الواحد يقابل مية وللموت ما بشيل الهم

من هذه الأرض وهذا المخزون، شبّ جعفر صلبا، عفيفا، كفل والدته وأخواته صغيرا، لا يسأل الناس شيئا، ولا يظهر إلا حين يكون ظهوره ضرورة، لا يجلس في الصفوف الأولى لكنه حاضر في كل قلب. كان صندوق أسرار دفعته، صاحب القلب المفتوح واليد المنفقة، العابد الصامت الذي لا تفارقه سبحته، ولا تفوته صلاه، الزاهد في الدنيا، الطامح في وجه الله.

تدرّج في العلم كما في العسكريه ، فحصل على بكالوريوس وماجستير في العلوم الإدارية من جامعة كرري، ووصل إلى مرحلة الدكتوراه التي كانت قيد المناقشة، غير أنه كان يؤمن بأن الشهادات لا تكتمل إلا بالخاتمة، وقد ختمها بالشهادة الحقيقية. عسكريا، كان من خريجي الكلية الحربية السودانية، الدفعه 42، واصل تأهيله في كلية القيادة والأركان حيث نال ماجستير العلوم العسكرية، واجتاز كافة الدورات الحتمية في معهد المشاة بجبيت، كما تخصص في دورة استخبارات عسكرية، لتكتمل فيه ملامح القائد الاستخباري المتزن، الميداني العارف، والوطني الموثوق.

خدم في كل الجبهات التي احتاجته، في الفاشر، واو، قوقريال، هيئة الاستخبارات، إدارة العمليات الحربية، إدارة الأبراج، إدارة الاستطلاع. وكان في كل موقع يُضفي سكينة القيادة وهيبة القرار. وعندما استُشهد اللواء عرديب، تسلّم جعفر قيادة الاستطلاع، ولم يغادر موقعه، رغم مرضه، رغم الجراح، رغم أنه أجرى عملية قلب مفتوح استمرت 18 ساعة، لكنه لم يسعَ لإعفاء، بل عاد للميدان أقوى مما مضى.

كان جعفر يتحدث عن أسرته بخشوع ومحبة ورضا. قال يوما لرفاق دفعته: “أمي دي البركة… سندي الأول، ما قصرت معانا، ووقفت في محطات ما بوقف فيها إلا بت رجال، ويذكر زوجه، ويقول بابتسامة لا تُنسى: ” أم عيالي، ما اشتكت، تحملتني، ما اتراجعت، ووقفت جمبي في السراء والمحن.

كان رجلا يخبئ مشاعره في العمق، لكنه إذا أطلقها، خرجت ناصعة لا مواربة فيها. كما كانت له أسرته من الدم، كان له أخ من الروح: معاذ الرفاعي، الذي ما انفصل عنه يوما في قلب أو ساحة أو مجلس. كانا يتكاملان بلا تكلف، يتفاهمان بالنظرة، ويتقاسمان النبض في الميدان. قال أحد رفاقهم: “إذا جاء جعفر، بحثنا عن معاذ، وإذا حضر معاذ، انتظرنا جعفر… كأنما كانا جناحي طائر لا يحلق إلا بهما معا.

ارتقى جعفر كما عاش، في صمت القادة وثبات المؤمنين. كان في موقعه، لم يغادر القيادة، ولم يطلب راحة، قاتل مع جنوده حتى لقى الله. استُشهد يوم الخميس 29 سبتمبر 2023، وهو يؤدي واجبه في إدارة الاستطلاع. لكنه لم يرحل، بل ترك أثرا لا يُمحى. سيرة تُروى، وملامح تبقى، ووصايا تمشي على أقدام من عرفوه، ومن لم يعرفوه بعد.

رحم الله العميد الركن جعفر الطاهر خلف الله، وجعل من سيرته منارا للقادمين، ووسما خالدا على جبين الجندية السودانية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى