رأي

رجال حول القوات المسلحة (26).. اللواء الركن حسين إسماعيل عرديب: أول الشهداء برتبة اللواء  

 

العميد م. د. محمد الزين محمد 

في زمنٍ تكاثفت فيه المحن، واختلطت فيه الأقنعة، وتساوى في ساحاته الادّعاء والاختبار، خرج رجلٌ من تراب السودان الصلب، من بيوت الطين وأحلام الريف، ليكتب سيرة من نارٍ ونور، ويرتقي في درب الرجال الذين ما بدلوا تبديلا.

إنه الشهيد اللواء الركن حسين إسماعيل عرديب كوكو، ابن الدفعة 40، تلك الدفعة التي يذكرها المجد كلما مرّ على ميادين الشرف، لكثرة ما أنجبت من شهداء، منذ “صيف العبور” وحتى “ملحمة الكرامة”. قائد ما اعتاد الانحناء، وما عرف التراجع، رفع كلاشه في وجه الغدر، وثبّت قدمه في خط النار، واختار أن يمضي كما عاش: مرفوع الرأس، حارساً للسيادة، وواقفا في الصفوف الأمامية.

لم يكن موقفه إلا امتداداً لوصية الأجداد الذين أنشدوا:

جدودنا زمان وصونا على الوطن

على التراب الغالي الما ليهو تمن

نحن حافظين للوصية

جوه في قلوبنا الوفية

ذكراهم بتلهمنا

وتشجينا بعزيمة قوية

يعود نسبه إلى جبال النوبة – منطقة ميري، قرية “كانقا”، مسقط رأس والديه وأجداده. لكنه وُلد بعيداً عن تلك التلال في قرية هداليا شمال الدلتا بشرق السودان، حيث كان والده يعمل في السكك الحديدية، مهنة حملت الأسرة من بقعة لأخرى، فغرس فيها روح التنقل والعمل والانضباط.

تعلم حسين أولى حروفه بهداليا، ثم انتقل إلى حلفا الجديدة للدراسة بإشراف شقيقه الأكبر، قبل أن يعود إلى منطقة القاش ويدرس في مدرسة أروما الأميرية، ثم يكمل الثانوية في كسلا، حيث كانت البدايات الجادة لرجلٍ يتأهب لطريق غير عادي.

التحق الشهيد بـ الكلية الحربية السودانية عام 1989، وتخرج فيها عام 2001 برتبة ملازم. مر بمسار عسكري متدرج شارك فيه في العديد من المواقع الحساسة والمعارك الوعرة، مثل متحرك “سيوف السلام”، ومواقع في خشم القربة، وجبل أسير، وكادقلي، وسنجة، وأم سردبة، والأبيض، وغيرها .

نال ماجستير العلوم العسكرية من باكستان، ومرّ بدورات متقدمة مثل قادة الفصائل والسرايا، وكليات القادة والأركان في أمدرمان.

حين اندلع العدوان على القيادة العامة فجر 15 أبريل، لم يتوارَ اللواء عرديب خلف الجدران. بل حمل كلاشه، وخرج وسط جنوده، مقاتلاً وموجّهاً ومدافعاً عن كرامة السودان. استشهد في اليوم الرابع، 27 رمضان 1444 الموافق 18 ابريل 2023، عند الساعة الثانية عشرة ظهراً، وهو بين جنوده وضباطه في محيط القيادة الشرقية. لم يترك موقعه ولم يتردد لحظة.

خلّدت القوات المسلحة السودانية اسمه بتسمية متحرك “الشهيد اللواء عرديب”، الذي قاد تحرير أم درمان، ثم اللواء الثاني الذي حرر مدينة بحري وسلاح الإشارة والقيادة العامة. وكان في مقدمة صفوف رفاقه الذين أحبهم وعلّمهم الصبر والوفاء.

بعيداً عن العسكرية، كان عرديب باراً بوالدته، كافلاً لأبناء شقيقه الراحل، جواداً في مدينته قلع النحل، يوزع “كيس الصائم”، ويدعم المساجد، ويقيم موائد الإفطار الجماعي.

عرفه كل من خالطه بالصدق، والتواضع، والحكمة. لم يكن قائداً بالرتبة فحسب، بل قائداً بالخلق والسلوك.

لقد مضى اللواء حسين إسماعيل عرديب كما يعيش الكبار: واقفاً، مقاتلاً، رافعاً راية الوطن.

دمه لم يذهب هدراً، فقد سُقيت به الانتصارات، وتحررت به مواقع، ونُقش اسمه في لوح الخالدين.

وهكذا يكون القادة الذين لا يكتبون التاريخ… بل يصنعونه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى