رجال حول القوات المسلحة (23)

العقيد الركن الطيب الصديق الفارس
العميد م. د. محمد الزين محمد
بداية الحكاية… حين أرسل سيارته إلى الرئيس السابق.
كان التغيير قد وقع في أبريل 2019، وانقلبت الموازين، وارتبك المشهد، وظنّ الكثيرون أن كل شيء قد تغير، حتى الوفاء. لكن الطيب الصديق، وهو يومها في الحرس الرئاسي، لم يتزحزح عن مكانه في مواقفه. لكن الذين يعرفونه حقّاً كانوا يعلمون أنه يتحرك في داخله شيء كبير: الوفاء. والله يحب الأوفياء.
نُقِل الطيب إلى نيالا، وهناك تولى رئاسة شعبة الاستخبارات، ومع أول أيامه علم أن قائده الأعلى السابق، الرئيس عمر البشير، أضحى سجيناً، وأن والدته وزوجتيه – أقرب الناس إليه – لا يملكن مركبة تقلهن.
حينها، يروي لي الشهيد الطيب بنفسه: لم يكن يملك غير سيارة “أتوس” مهترئة، سيارة شخصية بالكاد تقضي حاجته، لكنه آثر ألا تبقى في داره، وسحبها من أسرته، ثم أرسلها إلى أسرة قائده السابق، دون أن يُخبر أحداً، لا رياءً ولا تملّقاً، بل لأنه كان يرى في “القيادة” عهداً لا تمحوه السياسة ولا تمسّه التقلبات. في صمتٍ يشبه الصدق، ووفاءٍ نادرٍ يُشبه الطيب.
وعندما عاد إلى الخرطوم رئيساً لشعبة استخبارات المنطقة المركزية، واصل ما بدأه، وكان مواظباً على زيارة الرئيس السابق عمر البشير في مستشفى السلاح الطبي، رغم أن البشير طلب منه التوقف عن زيارته حفاظاً عليه. لكنه أبى أن يتركه، مثلما أبى أن يقبل نهيه عن إرسال السيارة، وظلت علاقته بالرئيس السابق علاقة رجلٍ عاهد نفسه ألا يقطع وداً في زمن الجفاء. كل ذلك، لا لأنه يؤيد أو يعارض، بل لأنه أوفى من أن يترك رجلاً كان بالأمس قائده.
على المستوى الشخصي كان يزورني وأزوره والفضل في الحالين له! كما قال الشافعى متحدثاً عن علاقته بتلميذه ابن حنبل:
قالوا يزورك أحمد وتزوره * * * قلت الفضائل لا تفارق منزله
إن زارني فبفضله أو زرته * * * فلفضله فالفضل في الحالين له
ثم أما قبل: في زمن عزّ فيه الوفاء، وندر فيه الثبات على العهد، سطع نجم رجلٍ لم يعرف إلا الإخلاص نهجاً، والمروءة خُلُقاً، والوطن وجهةً لا يُغيّرها ضباب السياسة ولا تغيّر الأحوال. إنه العقيد الطيب الصديق، أحد أبناء الاستخبارات السودانية الأبرار، الذين لم يعرفوا الولاء إلّا للوطن، ولم يُخالفوا المروءة يوماً.
كان يهتم بصنائع المعروف وبذل الخير حباً لاخوته والوحدة، ظهيراً للجميع في السراء والضراء . لا يلتفت خلفه إلا ليطمئن على الذين مضوا معه في الدرب، ولا يمضي قُدُماً إلا وقد حمل معهم ما استطاع من جميل الذكرى ونُبل العهد من زملاءه شهداء الحرس الرئاسي الذين مضوا في أول يوم من حرب الكرامة، ولسان حاله يقول كما قال أحمد مطر:
إصعدْ، فموطنك السّماءُ، وخلِّنا في الأرضِ، إن الأرضَ للجبناءِ
إصعدْ، فهذي الأرض بيتُ دعارةٍ فيها البقاءُ معلّقٌ ببغاءِ
من الجذور إلى السماء
وُلد الشهيد في النيل الأبيض، في الشيخ الصديق، اللعوته، حيث عرفانية التصوف، وهو سمي الشيخ الطيب (راجل جبل أمرحي)، كاهليٌّ أصيل، نبت من أرض الكرام، وتشرب نخوة الريف، فصار سنداً لكل من عرفه. ينتمي للدفعة 45، وهي الدفعة المعروفة بصلابتها وكثرة الشهداء فيها، فكان من خيارهم وأكملهم.
شابٌ وسيم، قسيم، حيي، فارع الطول، له هيبة الصمت، وجلال العارفين، وانضباط المحترفين. لا تخطئ العين تدينه، ولا تخطئ القلوب طيبته، ذو خلق وأدبٍ ووداد جميل. وكان مع ذلك رجل استخبارات من الطراز الرفيع، يُقرأ الوجوه، ويعرف من النظرة ما يعجز عنه التحقيق.
حين ضاقت الخرطوم، وتكاثف الحصار على سلاح المدرعات، اختير الطيب بعناية، نُقل مخصوصاً من مقرّه، ليقود مهمة فك الحصار. لم يكن ذلك ترفاً في القيادة، بل لأنه كان الرجل الذي يعرف كيف يتعامل مع التعقيد، ويصنع من قلة العدد عزماً، ومن ضعف الإمكان قوة.
ركب النيل، في مهمة لا يُقدم عليها إلا من كان مؤمناً بها إيمان المُجاهد، وسار نحو جبل أولياء، يقود القوة، يرتب الصفوف، يخطط للساعة التي تُفك فيها القيود عن المدرعات، ولكن يد القدر كانت أسرع، فنال الشهادة قبل التحرك الفعلي، وهو يضع لمساته الأخيرة على الخطة، عاش مِيفاءً ومضى كريماً، وذلك في 18 نوفمبر 2023. ليكون من الذين شهدهم الله في حال نيةٍ صادقة وهمة عالية.