رأي

خيانة النخبة خطاب التحريض والتقسيم في زمن الحاجة إلى الوطن

 

عبدالعزيز يعقوب

في لحظة تاريخية مفصلية يحتاج فيها السودان إلى التئام جراحه وتأسيس مشروع وطني جامع، تتصدر بعض النخب المشهد بخطاب تحريضي منفلت، لا يستمد شرعيته من العقل أو من المصلحة العامة، بل من ضيق الأفق الشخصي، والحنق المكتوم، والحسد الموروث. هؤلاء ليسوا نخبًا تُبشّر بعهد جديد، بل هم وجوه مأزومة تمتهن خطاب التفتيت والكراهية ، وتغتذي على انهيار الوطن وتشرذم شعبه.

لقد أدرك المفكر السوداني منصور خالد هذا الداء باكرًا، وعرّاه بلا هوادة في كتابه الشهير “النخبة السودانية وإدمان الفشل”، حين وصف نخب ما بعد الاستقلال بأنها مصابة بعلّة “العجز عن إدارة التعدد، والنزوع إلى شيطنة كل مخالف، والخضوع الدائم لغواية الذات الجماعية التي تقدّم الولاء القبلي أو الحزبي على الانتماء الوطني.” رأى منصور أن السودان أُهدر على يد من زعموا تمثيله، بينما كانوا في حقيقتهم أسرى الحسد، وعبيدًا للمصالح الفئوية.

وها نحن اليوم نرى تجلّيات هذا الفشل التاريخي في وجوه معاصرة. ففي مقابلة متلفزة على قناة الجزيرة، مع الصحفي المميز احمد طه وصف الدكتور الوليد مادبو، وهو أكاديمي يُفترض فيه الاتزان، رئيس الوزراء السوداني الجديد الدكتور كامل إدريس بـ”العوّوقة” – أي المتخلف – في إسفافٍ لغوي يعكس إساءة واحتقارًا طبقيًا وذهنيًا لا مكان له في ساحة الحوار الوطني. هذا التوصيف لا يعبّر عن رأي ناقد، بل عن احتقار شخصي ، وسقوط ينبع من فشل متراكم وعجز عن المساهمة في مشروع وطني حقيقي.

وما هو أدهى من التحقير الشخصي، هو اصطفاف مادبو الصريح إلى جانب مليشيا الدعم السريع، التي وثقت تقارير حقوقية دولية ضلوعها في جرائم إبادة جماعية، وعمليات اغتصاب جماعي، وتدمير ممنهج للقرى في دارفور وأحياء كاملة في الخرطوم، وتلقيها دعم خارجي. لم يكن دعمه موقفًا فكريًا مبنيًا على رؤية، بل اصطفافًا قبليًا فجًا، لم تعصمه منه ثقافته الغربية ولا خلفيته الأكاديمية. وهو ما يذكّرنا مجددًا بتشخيص منصور خالد: “إن مشكلة النخبة ليست في الجهل، بل في العجز عن تجاوز الولاءات البدائية.”

وإلى جانب مادبو، يظهر عبدالرحمن عمسيب صاحب فكرة “البحر والنهر”، وهي نظرية عنصرية تستبطن تقسيمًا جهويًا خطيرًا، يضع أهل الشمال والوسط في مواجهة أهل الغرب والشرق. وفي طرحه هذا لا نرى اجتهادًا معرفيًا، بل دعم لأجندة استخبارية تريد تقسيم واضعاف السودان و امتدادًا لتلك الذهنية التي لا ترى الوطن إلا مرآةً للقبيلة، والهوية إلا ظلًا للدم. وهو خطاب لا يختلف جوهريًا عن منطق التقسيم الذي مزق يوغندا والكونغو ونيجيريا، حيث قادت الجهوية إلى حروب أهلية دامية.

 

النخبة التي تنتمي إليها هذه الأصوات ليست بنت اليوم، بل هي وريثة مشروع ما بعد 1956، الذي رغم فشله في بناء دولة العدالة، منح أسرًا مثل آل مادبو فرص التعليم والمناصب والمكانة. لكن مادبو، في مفارقة مأساوية، ينقلب اليوم على تلك الدولة نفسها، لا لأنها فشلت في استيعابه، بل لأنه عجز عن بلوغ قمة تمثيلها، فاختار أن يحرق الجسر كله بدلاً من مدّه لغيره.

 

ما نشهده اليوم هو نتيجة حتمية لتراكمات من الفشل السياسي، والتحريض المقنّع، والتخندق في هويات ما قبل الدولة. نخب شاخ وعيها، وهرمت أخلاقيًا، ولم تعد قادرة على الإسهام في مشروع جامع، فعوّضت فشلها بتخوين الآخرين، وشتم رموز الدولة، والدعوة إلى مزيد من التشظي والانقسام .

 

إن ما يحتاجه السودان اليوم ليس اجترار هذا الخطاب المهزوم، بل بعث وطني جديد، يصنع نخبة تؤمن بالوطن لا بالقبيلة، بالعدالة لا بالثأر، بالاستيعاب لا بالإقصاء. نخبة تعيد الاعتبار لفكرة الدولة الجامعة التي تحفظ للجميع كرامتهم، دون عنصرية ولا شوفينية. أما أولئك الذين اختاروا الاصطفاف مع المليشيات، والدعوة إلى الكراهية، فإنهم يسقطون أخلاقيًا قبل أن يُحاسَبوا سياسيًا.

ولعل أول طريق التعافي هو الاعتراف بأن هذا الوطن لا يحتمل المزيد من الخيانة باسم الحرية، ولا من التشرذم باسم المهمّشين، ولا من العنصرية باسم العدالة. فالتاريخ لا يرحم، والذاكرة لا تُمحى، والسودان يستحق أفضل مما قدّموه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى