خديعة دولة 56، الفخ المميت

حسين أركو مناوي

 

 

في تناول الأزمة التي تعيشها البلاد حالياً يتطلب مساحة للعقل حتى يتمكن الشخص من التقييم الصحيح لشعار دولة 56 أو مصطلح الفلول وهما سلاحان يتذرع بهما البعض في شن حرب لا تبق ولا تذر. الإنسان حينما ينساق وراء شعار ما بطريقة أعمى يظلم نفسه كثيراً قبل أن يظلم غيره ومن البديهي في هذه الحالة يقع تحت طائلة الوجدان وأصعب اختبار للإنسان عند إصدار الحكم للأشياء هو أن ينأى بندول أو مؤشر التفكير عنده بعيداً عن العقل إلى درجة التأرجح بشكل متطرف إلى قطب الوجدان.

هذه المقدمة القصيرة لن تكون بأي حال من الأحوال مدخلاً لتقديم مبررات لدحض وجود دولة 56 أو نكرانها إنما هو مدخل مهم جداً لتفنيد المسوغات التي يمتطي البعض على صهوتها في الحرب الجارية لضرب وحدة السودان في مقتل، بل ولتبيان درجة الانتهازية التي فاقت الفكرة الميكافيلية نفسها لشن الحرب على السودان بمبرر دولة 56 أو الفلول.

نعم، 1956 وهو عام استقلال السودان ولا حرج أن نربط الدولة السودانية الحديثة بهذا التاريخ لذا يجوز اصطلاحاً ومجازاً أن نطلق عليها دولة 56 وأيضاً يجوز أن نربط هذه الدولة أي دولة 56 بممارسات كانت خصماً على تاريخنا الوطني وخاصة الحروب التي مرت منذ الاستقلال بدءً من حرب الجنوب ومروراً بجبال النوبة والنيل الأزرق وآخرها حرب دارفور، وهي حروب قامت في سياق يختلف كلياً عن الحرب الدائرة وبرؤى وبرامج لا تشبه إطلاقاً الحرب الجارية، ناهيك عن فظاعة الجرائم التي تُرتكب يومياً ضد المدنيين علي يد قوات الدعم السريع.

في هذه الحرب أي حرب 15 أبريل/ 2023 حصل خلط كبير جداً في المفاهيم واستوت عند الكثير ”الانوارُ والظُلَمُ” على قول المتنبي، وكان المسؤول عن ذلك هو الإعلام الموجه. حصل خلط بين حرب رؤى وبرامج لها مسوغات سياسية واضحة على المسرح السوداني امتدت لعقود من الزمن وبين حرب كما سميت بعبثية، ليست لها رؤى سياسية ولا برنامج وطني.

حتى لا يكون الحديث مجرد استهلاك سياسي دعنا نُبوّب الحروب التي مرت بالسودان ونبحث عن وجه المقارنة بينها. بخلاف الانقلابات العسكرية، الدولة السودانية جربت حوالي سبعة حروب بما فيها الحرب الحالية، إضافة إلى ما لا يقل عن ثلاث حركات مطلبية سلمية في دارفور وجبال النوبة والشرق.

الفعل العسكري في مواجهة الدولة بدأت قبل الاستقلال بشهور ثم تحول ذلك الفعل إلى حركة عسكرية سياسية في جنوب السودان سميت بأنانيا 1, ولم تقف الحرب إلا بعد اتفاقية أديس أبابا 1972. وكانت الرؤية السياسية أو البرنامج لتلك الحركة هي الحصول على شكل من أشكال الحكم الذاتي وبالفعل تحقق ذلك في اتفاقية أديس أبابا 1972 ورؤية أنانيا 1 كان لها تأثير كبير في مداولات المائدة المستديرة في مارس عام 1965 حيث أُدرجت أجندة الفيدرالية للجنوب.

استأنفت الحرب في الجنوب بعد عشر سنوات ببرنامج ورؤية سياسية أوضح تحت تنظيم عُرف بالحركة الشعبية لتحرير السودان. في هذه المرحلة كانت الرؤية السياسية أوضح وأشمل حيث أن برنامج الحركة الشعبية تَركّز حول إعادة تشكيل الدولة السودانية تحت مسمى السودان الجديد.

ما بين عام 1970-1975 تَشكّل تحالف حزبي سياسي عسكري عرف بالجبهة الوطنية وقد قام التحالف بالهجوم على العاصمة المثلثة بقيادة العميد محمد نور سعد . هذا التحالف جاء كردة فعل لانقلاب مايو 1969 ضد الحكومة المنتخبة آنذاك وكان للتحالف برنامج واضح هو استعادة الديمقراطية.

في منتصف عام 1990 تم تكوين تنظيم سياسي عسكري ذي بُعد إقليمي باسم التحالف الفيدرالي بقيادة أحمد إبراهيم دريج وينوب عنه الدكتور شريف حرير وتزامن مع قيام التحالف الفيدرالي تنظيمات عسكرية تابعة للقوى الحزبية المختلفة بتحالف مع الحركة الشعبية واتخذت أسمرا مقراً لها. كان لتلك القوى العسكرية- السياسية برنامج مسبق عن استعادة الديمقراطية إلا أن تنظيم التحالف الفيدرالي تميز عن بقية القوى السياسية بمطلب تطبيق الفيدرالية في السودان أسوة بالمطلب التاريخي للحركة السياسية في الجنوب.

في مطلع عام 2000 نشأت حركة عسكرية سياسية في دارفور بأجنحة مختلفة تحت اسم حركة تحرير السودان، سرعان ما انقسمت إلى جناحين أحدهما برئاسة مني أركو مناوي والأخرى برئاسة عبدالواحد محمد نور، كما قامت حركة أخرى باسم العدل والمساواة بقيادة الدكتور خليل إبراهيم. مهما كانت هناك مواقف آيديولوجية بيّنة بين حركة التحرير والعدل والمساواة كان هناك اتفاق حول الرؤية والبرنامج وقد ظهر ذلك جلياً في نصوص اتفاقية أبوجا للسلام التي صاغتها كل الأطراف بالرغم من أن طرفاً واحداً فقط وقع على ذلك الاتفاق بسبب خلاف طفيف في بروتوكول السلطة. الملاحظ الحروب المذكورة كلها ذات طبيعة متقاربة ومضمون يكاد يكون متشابه أي لكل حركة برنامج سياسي ورؤية بنت عليها إقامة الدولة السودانية.

في 15 أبريل 2023 اندلعت حرب من داخل المكون العسكري، بين مؤسسة الجيش وتنظيم عسكري تابع لمؤسسة الجيش باسم الدعم السريع، تم تكوينه لأغراض محدودة في مواجهة حركات الكفاح المسلحة ولم يستكمل دمجه في مؤسسة الجيش بأطر واضحة للدمج. بالرغم من أن الجيش والدعم السريع شاركا بفعالية وتنسيق تام في إسقاط نظام البشير إلا أن التوتر بينهما ظل سيد الموقف حتى لحظة الانفجار في 15 أبريل 2023 والملاحظ طيلة فترة التوتر التي امتدت من أبريل 2019 حتى 15 أبريل 2023 لم تطفح على السطح أو قل لم تُطرح في يوم من الأيام فكرة دولة 56 أو مصطلح الفلول من قيادة الدعم السريع مما يعني قيادة الدعم السريع قد وقع في مصيدة حرب بالوكالة.

إذاً ما هي المعطيات الكفيلة لتقديم صورة طبق الأصل للدعم السريع؟ الإجابة لهذا السؤال تكمن في هذه الجزئيات.

١- الدعم السريع تنظيم عسكري محض ولا علاقة له بالسياسة.

٢- تم تكوين الدعم السريع لحماية رئيس الجمهورية السابق عمر حسن البشير من قوي الكفاح المسلح أولاً وثانياً من تمرد محتمل داخل الجيش.

٣- كان الدعم السريع مجرد ملحق في مؤسسة الجيش ولم يتم الدمج في الجيش وبعد سقوط الإنقاذ كان الصراع حول الدمج، وعلى الأرجح فكرة التمرد على الدولة جاءت بسبب الخلاف الحاد حول كيفية دمج الدعم السريع في الجيش وقد استغلت أطراف سياسية سودانية وإقليمية ودولية هذا الخلاف لتدفع بمحمد حمدان دقلو للقيام بمغامرة الاستيلاء على الحكومة.

– فكرة إنشاء قوات الدعم السريع هي فكرة دولة 56 وفكرة الفلول إن صح التعبير، ومحمد حمدان دقلو وشقيقه عبدالرحيم وكثير من قيادات الدعم السريع هم في الأصل ربائب دولة 56 والفلول لأن الواقع يقول، حتى عام 2013 لم يكن محمد حمدان دقلو شخص ذا وزن لا في المؤسسة السياسية ولا العسكرية في السودان وبفضل الفلول ودولة 56 نشأت إمبراطورية أسرة دقلو وأصبحت صقراً له قوادم ومنقار ومخالب وأجنحة من الرعب ذات شفير مرصع بآلة الحرب من صواريخ ومدفعية وتشكيلات أخرى من النيران.

فكرة الوصول إلى سدة الحكم عند قيادة الدعم السريع كانت تُروج بشكل أو آخر قبل 15 أبريل 2023 وأقوى شهادة هي شهادة الناشط أحمد الضي عبدالرحيم وهو من أبناء المسيرية وقد ذكر في لقائه في فيديو مع عبد الرحيم دقلو أن الرجل له فكرة حكم البقارة أي دولة العطاوة وأكد أحمد الضي أنه تحدث إلى عبدالرحيم دقلو لأكثر من ساعتين والرجل لم يتطرق لا من قريب ولا من بعيد إلى مشروع وطني أو إنقاذ الدولة فقط تحدث عن ضرورة أن يحكم البقارة أي حكم العطاوة.

حسناً، إذا كانت هذه هي المعطيات لا بد من أن نتساءل من أين جاءت فكرة دولة 56 أو الفلول في الحرب الأخيرة. بالطبع عندما نعود إلى مرجعيات الصراع السياسي بعد سقوط الإنقاذ وخاصة مرجعية الاتفاق الإطاري بلا شك كل المؤشرات تقول قيادة الدعم السريع قد استلف فكرة دولة 56 والفلول كسلاح فكري وسياسي من المنظومات السياسية التي كانت في صراع دائم مع الحركة الإسلامية “الكيزان “.

وخاض بها معركته ولا يدرى إن هو فاز في هذه الحرب الفوز لن يكون فوزه إنما عملياً فوز للخصم التقليدي والدعم السريع فقط وقود لهذه الحرب وفي هذا السياق قد أشرنا من قبل في مكان آخر أن هناك معارك مؤجلة في السودان ومن بينها معركة اليمين واليسار ويبدو قائد الدعم السريع قد بلع الطعم في هذه المصيدة لأن المواجهة الشرسة التي قام بها قائد الدعم السريع في مواجهة المؤسسة العسكرية التي يعتقدها الكثير معقلاً للكيزان في فترة ثلاثين سنة الماضية كانت أولى بها تنظيمات سياسية غريمها الكيزان وهي أغلبها تنظيمات يسارية دائماً تظل يقظة لا تنام إلا على ثأراتها.

Exit mobile version