حين تذبل الروح في موسم الرجاء

عبدالعزيز يعقوب
في موسمٍ يُفترض أن تسمو فيه الأرواح على رهق الجسد، وأن تتسع الرحمة لتحتضن القلوب من كل فجّ عميق، وجد الحجيج السودانيون أنفسهم يختبرون مرارةً لا تليق بمكانٍ مقدّس، ولا بزمنٍ مشهود، ولا بإنسانٍ يحمل شوق الطاعة وآمال النجاة.
لم تكن المشقة في الطواف ولا في الجمارات ولا على ي الوقوف بعرفة، بل في التيه الإداري، والسعي خلف مسؤولٍ غائب أو متواطئ، والوقوف على أبوابٍ لا تُفتح إلا لمن امتلك وساطة، أو امتثل للإذلال، أو دفع الثمن من كرامته.
ما جرى ليس عثرة تنظيمية عابرة، بل انكشاف فاضح لوهن البنية الإدارية، ولسقوط مفهوم الخدمة العامة، وتحلل الواجب من ضميره الأخلاقي والمهني. فحين يغيب الإعداد الجاد، والتنسيق المحكم، والرقابة النزيهة، يتحوّل الحج من عبادةٍ جامعة إلى محنةٍ كاشفة، تعري الواقع لا الروح فقط.
تعددت صور التقصير، من فوضى في السكن والتنقل إلى انعدام الدعم والرعاية، ومن ارتباكٍ في الخدمات إلى صمتٍ رسميٍّ لا يليق بحجم التهاون. وكل ذلك ما كان ليحدث لولا أن غابت المحاسبة، واستُبدلت الكفاءة بالمحسوبية، وخُلعت المسؤولية عن أصحابها كما تُخلع العباءة عن جسدٍ أرهقته الرياح.
إن هذه الحوادث – على ظاهر بساطتها – ليست تفصيلًا هامشيًا، بل جروحًا نازفة في الضمير الوطني. لأن الشعائر، في جوهرها، ليست أداء طقوسيًا معزولًا، بل اختبارٌ أخلاقيٌ لقدرة الدولة على حماية كرامة المواطن، وتيسير سُبله في عبادةٍ يفترض أن تكون ميسّرة بالحق، لا ممرغة بالذل.
والمأساة أن هذه ليست واقعةً وحيدة. فمن موسم الحج إلى مواسم الحرب والمجاعة، يتكرّر ذات المشهد القاتم تُباع الإغاثات في الأسواق، وتُبتز الأرواح في الطوابير، وتُدفن الحقوق خلف أبوابٍ صدئة، بينما تتفرج المؤسسات التي يفترض بها الانضباط، وقد نَخَرتها الرشوة والتهاون، وتخلّت عن وظيفتها في خدمة الناس إلى ممارسة السلطة عليهم.
إن ما نراه ليس خللًا في الخدمات، بل خيانة صريحة لعقد المواطنة. فحين يُساوَم المواطن على حقه، ويُبتز في حاجته، وتُختزل كرامته إلى إجراء مشروط بالرشوة أو الولاء، فإن الدولة تفقد معناها كضامنٍ للعدالة، ويتحوّل الجهاز الإداري إلى غابة، لا مؤسّسة.
لذا، فإن المماطلة في المحاسبة، ودفن الحقائق تحت رماد “اللجان”، لا يزيد الجرح إلا نزيفًا وألماً، ولا يُعيد الثقة التي تمزقت. لا بد من تسمية هذه الأفعال باسمها الحقيقي خيانة للوظيفة، خيانة للثقة، وخيانة للوطن.
إن تفعيل مبدأ المساءلة والمحاسبة ليس ترفًا سياسيًا، بل ضرورة أخلاقية لحماية مفهوم الدولة نفسه. فلا عدالة دون مساءلة، ولا دولة دون كرامة مواطنيها، ولا كرامة تُستعاد ما دامت أبواب المسؤولين مغلقة، وملفات الفساد طيّ النسيان.
ليست النكبة في تأخّر الحافلات، بل في تأخّر الدولة عن إدراك أن العدالة تبدأ من التفاصيل، وأن الانضباط الإداري ليس رفاهًا تنظيميًا، بل هو التعبير العملي عن احترام الإنسان.
وليست الكارثة في سوء التنسيق، بل في أن يبقى المواطن السوداني دائمًا في خانة المهمّش، يُساق من محنةٍ إلى أخرى، بينما يقتات الفاسدون من عجز الدولة عن صون حقوقه.
ما لم نواجه هذه الانحرافات كجرائم في حق الوجدان العام، وما لم نُغلّب مبدأ الحق في الخدمة على موروثات التسلط واللامبالاة، فإننا لن نستعيد ما فقدناه من ثقة، لا في مؤسساتنا، ولا في أنفسنا.
ولهذا، فإننا نوجّه الدعوة، بلا مواربة، إلى المجلس السيادي ومجلس الوزراء والنيابة العامة ووزارة الشؤون الدينية، لفتح تحقيق عاجل وشامل حول ما جرى في ملف حجاج السودان، وتحديد المسؤوليات، ومحاسبة كل من فرّط أو استغل أو تهاون، لا مجاملةً لأحد، بل إنصافًا لمواطنٍ لم يطلب إلا حقّه في كرامةٍ تحفظه، وعبادةٍ لا يذلّه فيها أحد.