رأي

حرب صانع السلام: كيف تُغذّي الإمارات الإبادة الجماعية في السودان

 

صباح المكّي

دبلوماسية ملطخة بالدم وخيانة لسيادة السودان

في 15 أبريل 2025، أصدرت دولة الإمارات العربية المتحدة بيانًا بمناسبة مرور عامين على اندلاع الحرب في السودان. جاء الخطاب، الذي ألقته لانا نسيبة، مساعدة وزير الشؤون السياسية، مصاغًا في إطار دعوة للسلام والتحول المدني، في محاولة لتقديم أبوظبي كقوة دبلوماسية إقليمية.

لكن التوقيت كان فاضحًا في مقاصده لمن يعيشون يوميًا في قلب الكارثة السودانية. فبينما تقف الإمارات متهمة أمام محكمة العدل الدولية بالتواطؤ في الإبادة الجماعية، لا يبدو نداءها المفاجئ للسلام سياسة خارجية صادقة، بل تمرينًا يائسًا في احتواء الفضيحة. خلف تلك التصريحات الرقيقة، تكمن دولة متورطة حتى النخاع في العنف الذي تدّعي اليوم معارضته.

تشويه السرد: تبييض ميليشيا وتقويض وطن

أخطر ما تضمّنه بيان الإمارات يكمن في محاولته المتعمّدة وضع الجيش الوطني السوداني على قدم المساواة مع ميليشيا الدعم السريع – تلك الجماعة المسلحة المتورطة، بحسب توثيق دولي، في ارتكاب تطهير عرقي، واغتصاب جماعي، واعتداءات ممنهجة على المدنيين.

فبامتناع الإمارات عن الإشارة الصريحة إلى الدعم السريع في البيان، مع الإيحاء بتقاسم المسؤولية بين الطرفين، تسعى الإمارات إلى طمس الفارق الجوهري بين جيش وطني يدافع عن سيادة بلاده، وبين تشكيل مسلّح متهم بارتكاب جرائم حرب موثّقة.

هذا ليس زللاً دبلوماسيًا عابرًا، بل ممارسة واعية لتزييف السرد وتمويه الحقائق وفعل متعمّد من التلاعب الإعلامي. لقد خلصت تحقيقات مجلس الأمن، وهيومن رايتس ووتش، والعفو الدولية، ومختبر أبحاث العمل الإنساني بجامعة ييل، إلى نتيجة واحدة: الدعم السريع هو المسؤول الأول عن الفظائع الممتدة من دارفور إلى الخرطوم.

إن محاولات خلق توازن زائف بين الجيش والدعم السريع ليست محايدة، بل هي تزوير ممنهج للتاريخ، مغطّى برداء لغوي دبلوماسي خادع.

ذخيرة في هيئة معونة: أسطورة “الدعم الإنساني”

في واحدة من أكثر الوقاحات فجاجة، اتهمت الإمارات الجيش السوداني باستخدام الجوع كسلاح. هذا الادعاء – الذي يفتقر لأي دليل – لا يصمد أمام الحد الأدنى من التمحيص. على الأرض، المجرم الحقيقي هو ميليشيا الدعم السريع – المدعومة والمسلحة والمحمية إماراتيًا – التي تعرقل مرور الإغاثة، وتنهب مستودعاتها، وتستخدم الغذاء أداةً لتركيع المجتمعات المحاصَرة في دارفور وكردفان.

وقد وثّقت وكالات الأمم المتحدة، بما فيها مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) ولجنة الخبراء التابعة لمجلس الأمن، هذه الانتهاكات باستفاضة. وفي المقابل، سعت الحكومة الانتقالية السودانية إلى تأمين ممرات المساعدات عبر بورتسودان لضمان وصول الإمدادات الأساسية للمدنيين.

ورغم ذلك، لا تزال الإمارات تقدّم نفسها كفاعل إنساني عبر ادعائها تخصيص 600 مليون دولار كمساعدات. لا توجد أي جهة مستقلة أكدت هذا الرقم، بينما الوقائع المثبتة ترسم صورة مختلفة تمامًا.

ففي أبريل 2025، كشفت قناة France 24 عن خط تهريب أسلحة سرّي يربط بين الإمارات وميليشيا الدعم السريع. قذائف هاون بلغارية الصنع، تم شراؤها قانونيًا من قبل الجيش الإماراتي، أُعيد توجيهها بشكل غير قانوني إلى الميليشيا في انتهاك مباشر لحظر الأسلحة الأوروبي. وقد أثبتت صور الأقمار الصناعية، والأرقام التسلسلية، وسجلات النقل صحة هذه الشحنات.

كما كشفت تقارير أممية عن جسر جوي تديره الإمارات عبر تشاد، استخدم لتزويد أحد أكثر أطراف النزاع دموية بالأسلحة. هذه ليست “أخطاء لوجستية”، بل مساهمات ممنهجة ترعاها الدولة في مجهود حربي دموي. “الإنسانية” الإماراتية ليست سوى واجهة زائفة تُخفي وراءها تحركات عسكرية خبيثة.

التحولات المدنية المُفخخة: إصلاح سياسي أم هيمنة خارجية؟

تتكرّر تصريحات الإمارات حول دعم “انتقال مدني يقوده المدنيون” في السودان، لكنها لا تعدو أن تكون قناعًا سياسيًا يخفي خلفه مشروعًا مفروضًا من الخارج – مشروع يُقصي المؤسسات الوطنية، ويُكرّس النفوذ الإماراتي عبر واجهات مدنية مختارة بعناية لخدمة أجنداته.

منذ عام 2020، تولّت الإمارات استضافة وتمويل شبكة من الشخصيات السودانية التي توصف بالمدنية، كثير منهم على صلة مباشرة أو غير مباشرة بميليشيا الدعم السريع. هذه الشخصيات التي اختفت تمامًا اصواتهم حين كان السودانيون يتعرضون للقتل والتهجير والاغتصاب، باتت اليوم تتصدر المنصات الدولية، تصدر بيانات مشتركة، وتدّعي تمثيل المجتمع المدني، وكل ذلك تحت حماية ودعم وترويج إماراتي. شرعيتهم لا تأتي من صناديق الاقتراع، ولا من قواعد شعبية حقيقية، بل من مراكز الاستخبارات التي تُديرها أجهزة الأمن في دولة الإمارات.

هذا ليس انتقالًا ديمقراطيًا كما يُروّج له، بل قبولٌ مصطنعٌ يُفصّل على مقاس القوى الأجنبية. نفس الوجوه المعروفة – عبد الله حمدوك، عناصر قوى الحرية والتغيير، مجموعات “تقدّم” و”صمود” – تعود بأسماء مختلفة، لكن بمضامين خاضعة لنفس الرعاة الخارجيين. يُقدّمون على أنهم إصلاحيون في مؤتمرات دولية ترعاها الإمارات في لندن واديس ابابا وكمبالا ونيروبي وغيرها، بينما هم في الحقيقة يعيدون إنتاج بنية سياسية منحازة للهيمنة الخارجية.

ما يُسمى بـ “المسار المدني” ليس سوى انقلاب ناعم على السيادة السودانية – انقلاب يُقصي الأصوات الوطنية الحقيقية، ويُلمّع نخبًا غير منتخبة، ويستبدل تطلعات الشعب بإملاءات خارجية.

مستقبل السودان لا يُرسم في الفنادق، ولا يُمنح من الكفلاء الإقليميين. إنما يُنتزع من الداخل، عبر نضال الشعب، وتضحياته، وتمسكه بحقه في تقرير المصير. وما دون ذلك، ليس سلامًا، بل شكل جديد من الاحتلال بوسائل ناعمة.

حين تتحول دولة قمعية إلى واعظة باسم الديمقراطية

مفارقة صارخة أن تحاضر دولة قمعية استبدادية عن الديمقراطية في حين انها تُجرّم فيها المعارضة وتُمنع فيها الأحزاب، بينما يكافح السودان للبقاء وسط واحدة من أكثر الحروب المُدبّرة وحشية في التاريخ الحديث. الإمارات ليست ديمقراطية. إنها دولة قمعية مطلقة ينتقل فيها الحكم بالدم – وأحيانًا بالرصاص. تشير السجلات التاريخية إلى أن أسرة آل نهيان، بين عامي 1645 و1966، شهدت ما لا يقل عن ثماني عمليات اغتيال داخلية، نُفّذت جميعها في سياق صراعات على وراثة الحكم، بهدف ترسيخ السيطرة وإعادة رسم خارطة النفوذ داخل الأسرة الحاكمة. أما “يوم الوهيلة” عام 1939 – المجزرة الدموية داخل أسرة آل مكتوم في دبي – فيمثّل تذكيرًا صارخًا بأن السلطة في الإمارات لم تكن يومًا ثمرة توافق شعبي، بل نتاج قمع دموي.

على النقيض، فإن الديمقراطية السودانية، رغم هشاشتها، وُلدت من رحم الجماهير. في أعوام 1964 و1985 و2019، خرج ملايين السودانيين لإسقاط أنظمة ديكتاتورية والمطالبة بحكم مدني. نضالهم ليس مستوردًا – بل وطنيّ الجذور، باهظ الثمن.

وما يجعل التدخل الإماراتي أكثر فجاجة هو خلفية العلاقة بين البلدين. في السبعينيات، ساهم السودان في بناء الإمارات الحديثة، وكان أول من اعترف باستقلالها. أطباء، ومهندسون، ومعلمون، وإداريون سودانيون أسهموا في بناء البنية التحتية والحكم والتعليم الإماراتي وبناء مؤسسات الدولة الإماراتية الحديثة. كثير من الإماراتيين تعلموا في الجامعات السودانية مجانًا.

لكن كيف ترد الإمارات الجميل؟ بالتدخل السافر، والتمويل السياسي، وتغذية آلة الحرب التي تنهش جسد السودان. شحنات سلاح إلى ميليشيا تمارس الإبادة، حملات إعلامية مضللة، وتآمر سياسي مكشوف على الدولة الوطنية السودانية.

لا يحق لدولة تُخرس الكلمة، وتُجرّم الرأي، وتسجن المفكرين، أن تتصدر المنابر لتلقي محاضرات عن الديمقراطية والحريات. السودان لم يُهدَ استقلاله ولم تُمنَح له كرامته، بل انتزع تاريخه بدماء أبنائه وجراح شعبه. أما حكّام الإمارات، فلم يعرفوا يومًا معنى المحاسبة أو رقابة الشعوب، ولم يتجرؤوا على مواجهة الصوت الشعبي – بل سحقوه وأقاموا على أنقاضه نظامًا من الصمت المفروض بالقوة..

الخاتمة: فلتسقط ورقة التوت عن هذا النفاق المنظم

السودان لا يحتاج إلى مواعظ من أولئك الذين تلطّخت أيديهم بدمه، ولا إلى شعارات سلام صادرة عن من يسلّحون جلّاديه. وإن كانت الإمارات صادقة فعلًا في مسعاها نحو السلام، فعليها أن تبدأ بهدم المنظومة التي شيّدتها لحرب الوكالة: أن توقف تدفق الأسلحة، وأن تنسحب من المشهد السياسي السوداني، وأن تخضع لتحقيق دولي نزيه وشفاف.

أما دون ذلك، فستظل بياناتها المصقولة مجرد استعراضات دبلوماسية جوفاء، تحجب تورطًا صارخًا خلف ستار من العبارات المنمقة. فخلف بريق اللغة، تقف حقيقة دامغة: مشروع تدمير ممنهج، مطلي بالدولارات، ومخضّب بدماء السودانيين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى