رأي

بعد الرحيل.. رحيل

د. عبداللطيف البوني 

عندما هجم الدعم السريع على القرية الوادعة بمتحرك كامل.. قادم من المصنع الماليزي قوامه أربعة ألف تقريباً من الرجال المدججين بأحدث الأسلحة وعلى ظهر التاتشرات والمواتر في ضحوة الخميس 14 نوفمبر 2024 مارس أسلوب الترويع الذي عرف به ومن مفرداته إطلاق النار عشوائياً فأسقط عشرات الموتى فخرج الأهالي المرعوبين وبعضهم يحمل جثث موتاهم ليدفنوا في مكان النزوح الذاهبين إليه وتركت بعض الجثث لأنه لم يكن معها ساعة الموت العدد الكافي لحملها ..

بعد عدة أيام وبعد جهد يتمثل في تفاوض مع الدعامة ودفعيات لهم سمحوا لعدد من الشباب بالعودة لمواراة الجثامين التي تركت بدون سترة، ولما وجدوها في حالة تحلل وكان الوقت الممنوح لهم ضيقاً فالدعامة ضاقوا زرعاُ بما يشغلهم عن الشفشفة.. قاموا بدفنها في أماكنها وفي الساحات التي تتوسط المنازل..

بعد مضي عدة أشهر وتحديداً في أواخر يونيو المنصرم تقرر نقل هذة الجثامين الي مقابر القرية فقام الأهالي بحفر قبر كبير في شكل مطمورة كبيرة وبعد الاستعانة بالجهات المختصة وعلى رأسها الهلال الأحمر بولاية الجزيرة وشرطة الولاية تم نبش القبور وإخراج الجثث وحملها في موكب مهيب تخلله النحيب وهطلت فيه الدموع مدراراُ، إلى مقابر القرية حيث تمت صلاة الجنازة عليهم ومواراتهم في القبر الجديد.

وهكذا كان يوم الفاتح من يوليو الجاري يوماً استثنائياً في تاريخ قرية اللعوتة حيث شهدت القرية حدثاً لم تشهده من قبل ومن ثم تجددت الأحزان وعادت ذكرى النكبة بقوة، فالذين تمت إعادة دفنهم فيهم الشيخ الوقور ذو اللحية البيضاء الذي أمضى عقودا من عمره في الاغتراب وعاد لقريته لينعم ببقية عمره وسط أهله.. فاغتيل بدم بارد ومع ابنه الفتى التقي الورع.. وفيهم الكهل الذي يقف على رأس العمل العام في القرية فسبحان الله كان يولي أدوات الدفن في المقابر اهتماماً خاصاً.. فمع كل وفاة يهرع أهل حيه لمنزله لأخذ أدوات الحفر بمافيها حفاظات المياه الكبيرة وفيهم العريس الذي اغتيل يوم الخميس وكان زفافه يوم الجمعة فذهب والحنة في يديه وفيهم الطفل الذي لم يبلغ الحلم وفيهم الشباب الذي كانوا يقفون على ثغور القرية منذ أن بدأت الحرب وفيهم.. وفيهم..اللهم تقبلهم عندك قبولاً حسناً واجعل قبرهم الجماعي الجديد روضة من رياض الجنة.

لقد قلت من قبل وفي أول مقال لي بعد تجربة القرية المريرة (الدخلت فينا ما بتمرق تاني) وحتى ولو حاولنا إخراجها وتناسي جراحاتها فلن نستطع لأنها في كل مرة تظهر لنا عجايبها فالنبش وإعادة الدفن لكل هذا النفر لم يكن على بال أحد قبل هذة الحرب، من قبل ذكرت هنا الحشائش المتوحشة التي لم نرها من قبل.. ففي كل يوم سوف يظهر لنا أثر من آثار هذة الحرب المقيتة ليكون جرحاً جديداً وسينطبق علينا قول الحلنقي (قدرما حاولنا نكتم جرحنا ونسكت بكينا) وهكذا سوف تتمدد أجيال النكبة ولا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم.

نقلا عن موقع “المحقق”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى