رأي

النهود “جلد النمر”: متحف التاريخ المفتوح وجرح الاعتداء الآثم

عبدالعزيز يعقوب

(١)

في مشهد مأساوي يعيد إلى الأذهان فظائع الخرطوم أمدرمان والجزيرة وسنجة ود النورة وأي رقعة ارض السودان وطأتها اقدامها، هاجمت بقايا مليشيا الدعم السريع مدينة النهود الوادعة بولاية غرب كردفان ، وارتكبت بشاعةً لا مثيل لها ضد المدنيين العزّل قتل عمد وتصفيات جسدية ودهس بالمركبات المدرعة ونهبٌ منهجي وتدمير مدروس للبنى التحتية وممتلكات المواطنين. ووفقاً لمصادر مختلفة قتلت قوات الدعم عدد يفوق عشرة مرات ما قامت به المليشيا في الصالحة من ترويع وقتل للمدنيين بدم بارد في واحدة من أبشع جرائم الحرب في البلاد.

تقع النهود غرب مدينة الأبيض وتتبع إدارياً لولاية غرب كردفان. وُلدت من رحم الصحراء والسافانا، حيث استقرت قبيلة حمر ذات الجذور الضاربة في كردفان، وأقامت حضارتها القبلية المبنية على الرعي والتجارة والإدارة الأهلية. ورغم تباين الروايات الشفاهية، يُشيع أن المنطقة كانت ضمن نفوذ سلطنة الفور في مراحل سابقة، قبل أن تنتقل السيادة إلى حمر ضمن نظام الحواكير الذي اعتمده سلطان دارفور بصح موجود في دار الوثائق ولدي قبيلة الحمر، وإن لم تخرج أي وثائق بريطانية حتى الآن.

(٢)

في قلب غرب السودان وعلى تخوم التلاقي التاريخي بين دارفور وكردفان، تبرز النهود مركزاً حيوياً لقبيلة حمر وواحدة من الحواضر الثقافية والاجتماعية ذات البصمة العميقة في تاريخ السودان الحديث والمعاصر. ممتدة جذورها إلى قرونٍ من التشكّل الاجتماعي والتفاعل القبلي، كانت ملتقىً تتلاقح فيه قبائل المسيرية وسلاطين الفور والتجار القادمين من الشرق والغرب. وقد وصفها القائد التاريخي منعم منصور بأنها “جلد النمر” إشارةً إلى تنوع ألوانها ومكوناتها البشرية والثقافية، فسيفساء إنسانية تضمّ كلّ السودان.

عرفت النهود دورها كمحطة رئيسية في تجارة الصمغ العربي والفول السوداني والكركدي والمواشي، وكان سوقها معبراً استراتيجياً بين دارفور وكردفان والسودان الوسطى، وفضاءً حيوياً للنشاط الأهلي. وعلى الصعيد الثقافي، امتداداً لإشعاع أمدرمان وود مدني والأبيض، أنجبت كوكبةً من الشعراء والفنانين الذين عبروا عن هموم الناس وأحلامهم، فغدت منارةً شعرية في البادية الكردفانية.

(٣)

يمثل تاج السر الحسن، أخ الأديب القانوني الحسين الحسن صاحب قصيدة “حبيبة عمري”، الوجه الثقافي المضيء للنهود. درس تاج السر في موسكو وعاش فقيراً حتى ووري الثرى في الحاج يوسف، لكن قصيدته الشهيرة “أفريقيا واسيا ” المشهور “بمصر يا أخت بلادي” التي غنّاها الكابلي، رسمت صورةً أممية بعد مؤتمر دول عدم الانحياز

فلقد مُدّت لنا الأيدي الصديقة

وجه غاندي وصدى الهند العميقةْ

صوت طاغور المغني

بجناحين من الشعر على روضة فنِّ

يا دمشقُ كلنا في الفجر والآمال شرقُ

أنتِ يا غابات كينيا يا أزاهرْ

يا نجوماً سمقت مثل المنائرْ

يا جزائرْ… ها هنا يختلط القوس الموشّى

من كل دارٍ، كل ممشى.

كما أنجبت النهود عيسى حامد، أحد رموز شعر الدوبيت الذي خاطب الناس بالحكمة والفخر القبلي :

الدهر البخَتَك ما بنفعك فيهو العَتَبْ

والزول النديمك لو جفاك أهو انسحبْ

الحِيل ما بتنفعك لا سيف لا نَسَبْ

إلا رِضا ربّك ومَدّك في العَصَبْ

وللنهود أيضاً باع طويل في السياسة والدبلوماسية؛ فقد برز منها جعفر محمد علي بخيت وزير الخرطوم الأسبق، وإبراهيم منصور و د. الدرديري محمد احمد بعد الاستقلال، ود. بشير آدم رحمة الاقتصادي والسياسي المعروف، والسفير عبد المحمود عبد الحليم في السلك الدبلوماسي، ود. إدريس سليمان وزير الدولة والدبلوماسي، وغيرهم من أبناء المنطقة.

ومع كل ذلك القبح المليشي ، يسكب الأمل ضوءه على أهل النهود؛ فقيم الصمود والإخلاص التي أنجبت الشعراء والمفكرين والسياسيين ستنتصر على هذا الظلام. ستعود النهود كما عهدناها عزيزةً موحّدةً تُنجب النبهاء وتدير تنوعها بسلام. فهي ليست مجرد مدينة على خارطة السودان، بل متحف حي لذاكرة قبيلة حمر وتاريخٍ ممتد من الحكمة والكرم والشعر والتنوع، رايةً مرفوعة لقيم السودان الحقيقي وتنوعه الفريد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى