النخب السياسية السودانية: الواقع والمأمول

د.حسن المجمر
أفرز النزاع المسلح الدامي الذي تشهده بلادنا صوراً مأساوية وصادمة لبعض النخب السياسية والأكاديمية والاجتماعية والعسكرية التي كان من المؤمل أن تتفق على الحد الأدنى الذي يرفض التمرد ابتداءً ومهما كانت الأسباب، مثلما يرفض السودانيون الانقلابات العسكرية والاستقواء بالأجنبي واللجوء إلى أعمال الشغب التي عطلت حياة الناس وأحالتها إلى جحيم.
لم يدر بمخيلة حتى أكثر السودانيين تشاؤماً منذ اندلاع الحرب في الخامس عشر من أبريل 2023م، أن تصل بهم حدة الصدمة وانقطاع الأمل خاصة في النخب السياسية على المستويين الفردي أو الجماعي، في بلد عرف أهله بتماسكهم وحرصهم على وحدته مهما اشتدت بهم الخطوب. فالشعب السوداني أشتهر بين أصدقائه عرباً وعجماً بالأمانة والشجاعة والعفة والكرم ونجدة الملهوف، وهذه سمات وخصائص رسخت عُرى المودة والفخر بين أبنائه وإن اختلفت ثقافاته ولهجاتهم ولغاتهم، وتلك معاني نبيلة جسدها الأدباء والمبدعون (ردد الدهر حسن سيرتهم ما بها حطة ولا درن).
فالحروب التي شهدها السودان منذ استقلاله كثيرة، لكنها لم تنجح أبداً في تمزيق نسيجه الاجتماعي، فـ(كل أجزائه لنا وطن إذا نباهي به ونفتخر)، بل لم تغير الهوى المشترك، فكلهم يطربون للكاشف عندما يصدح (أنا إفريقي أنا سوداني)، وكلهم يفرحون لأهداف جكسا وبرعي وبريش وسانتو وأنس النور ومحمد عبد الرحمن.
بعض النشطاء السياسيين في بلادنا يجرف عقولهم تيار السلطة وبريقها فلا يتيحون لعقلهم فضيلة التفكر والتدبر لمآلات تحولاتهم التي هي أسرع من قرص الشمس عندما تدنو للمغيب، فهم على استعداد لركوب أي سرج ومع أي نظام يصلهم لمبتغاهم المؤقت دون مراعاة لتاريخهم أو للقيم والأخلاق السودانية أو حتى القواعد الحاكمة لعضوية الحزب.
هؤلاء هم الذين انتظر منهم الشعب دون كلل ومنذ مقاومة الاستعمار ونيل الاستقلال إلى حينه ألا يضعو العقدة في المنشار، فالشعب ثار وفرض التغيير ثلاث مرات لكن أولئك الساسة على المستويين الفردي والجماعي لم يرعو عن تكرار ذات أخطاء الماضي أو يعملوا على تطوير واقع واستشراف مستقبلهم استنادا على أفضل الإيجابيات المستقاة من ممارسات الأنظمة الوطنية المتعاقبة، بغية الحفاظ على استمرار حياة الناس وتحسينها وحماية وصون مكتسبات البلاد من مؤسسات وكوادر وبنيات تحتية.
فالشعب السوداني ذكي فطن بطبعه يعرف أصحاب الصدور النقية، ويملك من الإرادة ما يعينه على مساندة بعضه البعض عند الشدة والرخاء، فأفراده متكاتفون يجيدون قيم النفير والفزع والكرم والجود والشجاعة، وهو ما تفسره حالة الاستجابة للمقاومة الشعبية والتضحية بالنفس.
فمالذي يجعل شعب كهذا تستوي على ظهره نخب سياسية همها الوصول إلى السلطة وبأي وسيلة؟
وما الذي يجعل شعب كهذا تمثله قسرياً نخب سياسية لا تؤمن ولا تحترم أو تطبق على نفسها قيم الديمقراطية المتمثلة في قبول الآخر، والتسامح، والمساواة، وتكافؤ الفرص، وحقوق الإنسان، وحرية التعبير، وحرية تكوين الجمعيات والأحزاب السياسية والانضمام إليها، وحرية التعبير، وحرية اعتناق الآراء والأفكار والمعتقدات، والمساءلة، والشفافية، والعدالة وسيادة القانون، ومنع الإفلات من العقاب، والتعددية السياسية والإعلامية، والمشاركة السياسية، والفصل بين السلطات، واحترام وحماية حقوق الأقليات؟
وما الذي يجعل شعبا كهذا تتحدث باسمه نخب سياسية لا تؤمن بقيم حقوق الإنسان المتمثلة في عدم التمييز، والمساءلة، والمشاركة الواسعة، وعدم قابلية الحقوق للتجزئة، وعالمية الحقوق؟
وما الذي يجعل شعبا كهذا تتحدث باسمه نخب سياسية لا تؤمن بقيم حقوق الإنسان المتمثلة في عدم التمييز، والمساءلة، والمشاركة الواسعة، وعدم قابلية الحقوق للتجزئة، وعالمية الحقوق؟
وما الذي يجعل شعبا كهذا يسلم بطوعه وإرادته لسانه لنخب لا وزن سياسي لها، بل ولأحزاب لم يسبق لها أن حصلت على (15) مقعدا في أي برلمان منتخب في تاريخ السودان الحديث؟
وماالذي يجعل شعبا كهذا يخضع لأحزاب سياسية تتلقى التمويل الأجنبي وترتمي في أحضان السفارات؟
وما الذي يجعل شعبا كهذا يؤيد الأفكار والمشاريع التي تتبناها تلك النخب ولا تراعي فيها دينه وقيمه الثقافية والاجتماعية؟
ولأن أهل السودان يقرأون لا يجدون تفسيراً لأن يتبنى أكاديمي نظرية المتمردين لجلب الديمقراطية عبر التهجير القسري والنهب والسلب والاغتصاب، تحت مسوق اجتثاث فئة منهم.
ولأن أهل السودان حكماء لا يجدون تفسيراً لأن تتفرق سنان حزب تبنت قياداته الدعوة للاستقلال في العام 1955، لتنحدر به قيادته إلى درجة تبني إعادة تأسيس المؤسس وتدمير قواته المسلحة في العام 2025.
ولأن أهل السودان لا يقبلون على أنفسهم الضيم لم يقبلوا إلقاء السلاح ووقف حشد المقاومة ليقدموا الشهداء الذين استطاعوا إجلاء المتمردين من البيوت حتى يعود إليها أهلها مكرمين في مدني وسنار والخرطوم وستليها زالنجي والجنينة ونيالا.
أهل السودان لم يجدوا حرجاً في أن يحتشدوا لمواجهة الخطوب المدلهمة حين يكون الامتحان عسيراً حتى لا يهان المواطن أو ترتهن البلاد : (غير هذي الدماء نبذها كالفدائي حين يمتحن .. بسخاء بجرأة بقوى لا يلي جهدها ولا تهن …. تستهين الخطوب عن جلد تلك تنهال وهي تتزن).
أيتها النخب السياسية الشعب السوداني يريد حياة كريمة تتولى فيها السلطة الحكومية تسيير شؤون الناس وتوفير الخدمات الأساسية، وتنفيذ برامج التنمية وحماية الحقوق والحريات العامة، واحترام التداول السلمي للسلطة وحظر الإقصاء والدعوة للكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية التي تشكل تحريضا على التمييز والعداوة والعنف.
والشعب يريد أن تكف النخب يدها ولسانها عن الاستقواء بالخارج فالسودان بموقعه الاستراتيجي وبموارده وثرواته الطبيعية يشكل فرصة للاستغلال وتقاطع المصالح المضرة بحاضره ومستقبله.
والشعب يريد أن تلتزم النخب بالامتناع عن اتاحة الفرصة لتدخلات العديد من الدول القريبة والبعيدة في شأنه الداخلي، حيث لا يجد الشعب السوداني نموذجاً ديمقراطياً يمكن أن يستمد منها، ولا مصلحة باقية تفيده.
والشعب السوداني لا يريد من نخبه سوى أن يحترموا عقول أفراده وأن يتفرغوا لإعادة بناء أحزابهم وجمعياتهم ونقاباتهم وتسخيرها للقيام بمهامها واختصاصاتها التي حددتها الصكوك الدولية لحقوق الإنسان والقيم الدستورية الراسخة، وليتركوا بناء النظام السياسي الصالح للبرلمان المنتخب الذي يمثل إرادة الشعب.