المحافل الدولية والدبلوماسية المعيبة

محمد سليمان الشاذلي
مع كل هذه المؤتمرات، المتسمة بالسهو طورا، وبالغلواء تارة، إلى أين يُساق السودان؟ في أبريل من العام الذي مضى، من دون دعوة الحكومة السودانية، نظّمت فرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي مؤتمرا في باريس تحت شعار دعم السودان والدول المجاورة. ركّزت جلسات ذلكم المؤتمر على ضرورة وقف القتال، احترام القانون الدولي الإنساني مع ضمان إيصال المساعدات دون عوائق تحول. وفيه، تعهدت الجهات المانحة بتوفير أكثر من ملياري يورو، منها نحو 900 مليون يورو من الاتحاد الأوروبي. غير أن المؤتمر انتهى إلى لا شيء! لم يفلح ذلك الجمع الذي استضافته باريس في وقف العمليات على الأرض، كما أن المبالغ التي تُبرع بها لم يُرَ لها أثر. لا ريب أننا لا نحتاج إلى أن نقول إن المساعدات الضرورية لم تصل إلى السودانيين.
مؤتمر باريس جاءت من قبله ومن بعده مؤتمرات ومؤتمرات؛ آخرها كان مؤتمر لندن الذي التهمت مناقشاته يوما كاملا هو يوم الثلاثاء الذي وافق الخامس عشر من أبريل 2025؛ غياب التمثيل السوداني المباشر أثار، قُبيل وأثناء انعقاد المؤتمر، تساؤلات جادة حول شرعية وجدوى مخرجات المؤتمر. أما الاستجابة الدولية، فقد كانت ضعيفة للغاية. أيضا، من أبرز النقاط التي أثارت الجدل مشاركة دولة الإمارات العربية المتحدة، التي وُجهت لها اتهامات بدعم قوات الدعم السريع. مبنيا عليه، فقد انتقدت الحكومة السودانية دعوة المملكة المتحدة للإمارات واستبعادها للقوات المسلحة السودانية! معتبرة ذلك خطأ دبلوماسياً من شأنه أن يزيد من تعقيد الجهود المبذولة بغية الوصول إلى وساطة معقولة من شأنها فهم وحل النزاع. كذلك، مساعي وجهود وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي في إقناع الدول العربية بالاتفاق على مجموعة من المبادئ الدبلوماسية لتشكيل مجموعة اتصال مستقبلية لم تؤتِ ثمارها. يذكر أن المملكة المتحدة كانت قد أشارت إلى أن المؤتمر لا يُعد محاولة للوساطة أو التعهد بتقديم مساعدات، بل يهدف إلى بناء توافق سياسي أوسع حول مستقبل السودان بين الدول التي تزعم أن لها مصالحا في السودان!
مؤتمر لندن إذن حلقة في سلسلة من المحاولات الدولية الرامية لإيجاد مخرج للأزمة السودانية غير أن المؤتمر، شأنه شأن المحاولات التي سبقت، انتهى بانتهاء يوم الثلاثاء بالفشل. إقصاء حكومة السودان عن المؤتمر الذي استضافته المملكة المتحدة كان بمثابة السهو المتعمد الذي أثر على نحو سالب على الجهود الدبلوماسية التي كانت تأمل في الوصول إلى حل يضع حدًا لمأساة الحرب في السودان. نعم، أصر المنظمون على استبعاد الحكومة السودانية من هذا المؤتمر، الذي عقد في العاصمة البريطانية لندن يوم الثلاثاء الموافق 15 إبريل 2025.
الهدف المعلن للمؤتمر، شأن المؤتمرات التي سبقت، تمثل في التنسيق لوضع حد للحرب التي مزقت النسيج السوداني مع العمل على تخفيف معاناة الشعب السوداني. ومع أن المؤتمر عُقد بتنسيق مشترك بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي وفرنسا وألمانيا، وشارك فيه دبلوماسيون وممثلون للمنظمات الإنسانية، إلا أن أنظار الجميع كانت مشدودة إلى الطرف الغائب: الحكومة السودانية! التي قال الكثيرون إنه لابد من مشاركتها إن أردنا تحقيق أي حل سياسي شامل. لعمري إن حدث ذلك، لربما، شهدنا لحظة فارقة في محاولة وقف الحرب المستعرة منذ عامين. غير أن الدولة المستضيفة لم تنعم بالكرم الكافي.
للمفارقة، تزامنا مع جلسات المؤتمر، زاد معدل الانتهاكات جراء ما لحق معسكر زمزم من هجمات غير مبررة! الأمر الذي دفع الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش إلى إدانتها، مع المطالبة بالوقف الفوري للعدائيات وعمل كل ما هو لازم لتسهيل العودة إلى المفاوضات السياسية. وكان غوتيرش قد أكد في أكثر من مناسبة على أن العنف ضد المدنيين محرم بموجب القانون الدولي، كذلك أكد على ضرورة التحضير لعملية سياسية شاملة من أجل استعادة الاستقرار في السودان! من جهة أخرى، لم يكن العالم العربي بعيدًا عن فظاعة الانتهاكات الأخيرة؛ فقد أدانت المملكة العربية السعودية، الإمارات العربية المتحدة، قطر ومصر تلك الهجمات مؤكدة على ضرورة وقفها حفاظًا على القيم الإنسانية الدولية وحماية للمدنيين.
نظرا لغياب بيان ختامي، قدم ديفيد لامي مع نظرائه المنظمين من فرنسا، ألمانيا، الاتحاد الإفريقي والاتحاد الأوروبي، دعوة نادوا فيها بضرورة دعم الجهود الرامية لإيجاد حل سلمي ورفض كل ما من شأنه إطالة أمد الحرب بما في ذلك التدخلات الخارجية، التي تؤدي دونما ريب، إلى تصعيد التوترات الدبلوماسية وتأجيج المعارك الدائرة، بل والتحفيز على استمرارها. كما ناشدت الدعوة المجتمع الدولي ضرورة التأكيد على إيجاد حل لا يؤدي إلى تقسيم السودان. وكان لامي قد افتتح المؤتمر بنبرة فيها الكثير من العشم، حين قال “كثيرون تخلّوا عن السودان، وهذا لا ينبغي. إنه لخطأ أخلاقي فادح أن نرى بعض المدنيين قد قطعت رؤوسهم، أن نرى أطفالًا لا تتجاوز أعمارهم العام الواحد يتعرضون للعنف الجنسي، نرى أعدادا مهولة من الجوعى يفوق عددهم عدد الجوعى في أي مكان آخر في العالم. لا يمكننا أن نغضّ الطرف عن ذلك. واعلموا انه في هذه اللحظة يواجه المدنيون والعاملون في مجال الإغاثة في الفاشر ومخيم زمزم للنازحين أعمالا من العنف لا يمكن تصورها. أقول لكم إن العقبة الأكبر ليست في نقص التمويل أو غياب القرارات الأممية، بل في غياب الإرادة السياسية. ببساطة، علينا إقناع الأطراف المتحاربة بحماية المدنيين، والسماح بدخول المساعدات إلى البلاد بحيث توزع في جميع أرجائها، علينا جميعا أن نعطي الأولوية للسلام”.
إذن، في سياق مؤتمر باريس والاجتماعات الأممية والإقليمية التي سبقت جاء مؤتمر لندن؛ غير أن هذا الأخير فشل حتى في الاتفاق على بيان ختامي! وليس من فشل أكثر بلاغة من هذا. المباحثات المطولة التي استغرقت يوما بكامله من أجل تشكيل مجموعة اتصال تضطلع بها الدول الشرق أوسطية كيما تعنى بالمسارات الدبلوماسية بدلاً من دعم الفصائل المتحاربة لم تنتهِ إلى توافق! فمنذ البداية، واجه منظمو المؤتمر صعوبة في إيجاد صيغة محايدة، للبيان الختامي، يمكن أن تقبل بها كل من مصر والسعودية والإمارات بشأن مستقبل السودان. إذن، فشل المؤتمر في تشكيل مجموعة اتصال للتفاوض على وقف إطلاق النار أو حتى إصدار بيان مشترك! الأمر الذي عكس الانقسامات العميقة بين القوى الإقليمية الرئيسية. يذكر أن الإمارات العربية المتحدة أصرت على الانتقال الفوري نحو حكومة مدنية في الوقت الذي شددت فيه كل من مصر والمملكة العربية السعودية على ضرورة إنهاء القتال أولاً قبل التطرق إلى قضايا الحكم.
مؤكد أن مؤتمر لندن قد فشل في تحقيق تقدم ملموس على الصعيد الدبلوماسي. فاستبعاد الحكومة السودانية، والانقسامات الإقليمية، وغياب مبادرة ذات اتساق، كلها عوامل أكدت حقيقة التحديات الكبيرة التي ما تزال تعترض طريق الوصول إلى حل سلمي عادل ودائم. مستقبلا، لا بد من إشراك الحكومة السودانية في أي مفاوضات قد تطرأ، ذلك أنها الطرف القادر على المشاركة في الوصول إلى توصيات عملية قابلة على التنفيذ على الأرض؛ دونما ريب، لا يمكن لأي تقدم أن يتحقق في غيابها. لقد أثبتت التجارب السابقة أن غياب الحكومة السودانية عن طاولة المؤتمرات لم ينجم عنه سوى الفشل. كذلك، يتعين على المجتمع الدولي العكوف على وضع خطط إسعافية من شأنها حماية المدنيين وأن يضع ذلك على رأس أولوياته، أيضا، عليه أن يسعى إلى حل سياسي مستدام يعالج جذور الأزمة لا أعراضها. إن أي اجتماع أو مؤتمر قادم يفشل في اتخاذ خطوات جادة قابلة للتطبيق على الأرض سيكون بمثابة ختم لا حبر فيه على ورقة ممزقة اسمها: الدبلوماسية الضائعة، بل المعيبة. نعم، لا بد للمجتمع الدولي من أن يضطلع بمسؤولياته بأن يشرع في اتخاذ خطوات عملية تفضي إلى التغيير. الفرصة لم تزل قائمة، غير أنها لن تبقى طويلاً. إن أي حل سياسي لا يمكن أن يكون ذا جدوى ما لم يشرك الطرف الفاعل.
mohsulieman@gmail.com