صباح مكي
لأكثر من عامٍ ونيّف، غدت مدينة الفاشر، آخر معاقل الدولة في دارفور، رهينة حصارٍ محكمٍ تفرضه ميليشيا تُغذَّى بالمال والسلاح من خزائن أبوظبي. قصفٌ متواصل، وتجويعٌ منهجي، وتطويقٌ لا يلين. وفي الحادي عشر من أغسطس 2025 شهدت المدينة ومعسكري زمزم وأبو شوك الهجوم رقم 227 منذ بدء الحصار، وهو الأعنف على الإطلاق: أكثر من 543 عربة قتالية دفعت بها الميليشيا بعد تحويل زمزم إلى قاعدة حصينة. ومع ذلك صمد المدافعون، وكبّدوا المهاجمين خسائر فادحة: ما يزيد على مئتي قتيل، وتدمير ست عشرة عربة، وأسر أكثر من ثلاثين آلية سليمة. غير أنّ الفاتورة الأبهظ دفعها المدنيون؛ ففي أبو شوك وحده قُتل ما لا يقل عن أربعين مدنيّاً وجُرح العشرات.
لقد جاوزت الفاشر أربعمائة يوم وهي تواجه الجوع والموت تحت النار، لتسطر ملحمةً في الصمود والأنفة، بينما يقف العالم صامتاً؛ صمتٌ يضفي شرعيةً على المذبحة ويمنح رعاتها الإقليميين رخصةً لمزيدٍ من الفتك. الفاشر ليست ساحة نزاعٍ أهلي داخلي؛ إنّها النسخة الإفريقية من غزة، ولينينغراد جديدة في وجه التحدّي، ونموذج مكتمل الأركان لحصارات القرن الحادي والعشرين، حيث يتحوّل الصمت الدولي إلى تفويض مفتوح لمجازر أخرى.
خلفيّة: تمرّد الميليشيا على الدولة والشعب
اندلعت الحرب في الخامس عشر من أبريل 2023، حين أطلقت ميليشيا الدعم السريع — الامتداد المباشر لميليشيات الجنجويد المسؤولة عن فظائع دارفور — تمرّدها الدموي على الدولة السودانية. لم يكن الأمر صراع مؤسساتٍ نظامية، بل انقلاباً صريحاً يستهدف تقويض البنيان الدستوري وهدم ركائز السيادة الوطنية.
ومنذ اللحظة الأولى، وُجِّهت فوهات البنادق إلى صدور المدنيين: استهدافٌ للمدن والأسواق والمستشفيات ومخازن الغذاء، ونهبٌ، واغتصابٌ جماعي، وقتلٌ ممنهج. وفي دارفور تكرّرت ذات الممارسات التي وسمت حملات التطهير العرقي قبل عقدين، ليغدو الماضي امتداداً مريراً للحاضر. ولولا رعايةُ سلطة أبوظبي — بما ضخّته من مالٍ وسلاحٍ ومسيّراتٍ ومرتزقة — لانطفأ التمرّد سريعاً؛ لكنه تحوّل بتلك الرعاية إلى حرب وكالة مكتملة الأركان.
حصارٌ مُحكم: سجنٌ في العراء
الفاشر، التي كانت يوماً قلب دارفور التجاري والثقافي والإداري، أضحت اليوم سجناً فسيحاً تحت السماء. فمنذ أبريل 2024 لا طعام يدخلها، ولا دواء يبلغها، ولا سبيل إلى الخلاص. المدينة رازحة تحت حصارٍ خانق تفرضه ميليشيا مسلّحة ومموّلة من سلطة أبوظبي، حصارٌ صُنِّف على أثره الوضع الإنساني في الفاشر بالمرحلة الخامسة وفق التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC) ــ وهي ذروة الجوع والمجاعة. أكثر من 825 ألف طفل محاصرون؛ المخيمات تحوّلت إلى ميادين قتل ومقابر مفتوحة؛ والناس يقتاتون على علف البهائم فيما تنهار ركائز الحياة الأساسية.
ذلك الجوع لم يكن عرضاً عارضاً للحرب، بل سلاحاً واعياً صُمِّم لكسر إرادة المدينة. فالتكتيكات مدروسة ومقصودة: إغلاق الطرق، اعتراض قوافل الإغاثة، ضربات دقيقة بالطائرات المسيّرة، واستهداف المرافق الصحية ومخيّمات النزوح. وفي الرابع والعشرين والخامس والعشرين من يناير 2025 قصفت الميليشيا مستشفى الأمومة التعليمي السعودي، فحصدت نحو سبعين روحاً بريئة، في جريمةٍ أدانتها الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية. وحتى الممرات الإنسانية غدت مصائد موت، إذ نصبت الميليشيا الكمائن لقوافل المساعدات الأممية، مخلّفةً قتلى وجرحى، فيما استشرت الكوليرا والأوبئة القابلة للوقاية، وانحلت معها آخر مقومات البقاء.
وكأنّ الكارثة لم تبلغ ذروتها، اجتاحت الميليشيا معسكر زمزم مؤخراً، مستعينةً بمرتزقة كولومبيين، وحوّلته إلى ثكنة عسكرية. وأسفرت تلك الحملة عن حصيلة فادحة: أكثر من 782 قتيلاً، وأكثر من 1100 جريح، بينما ازدحمت القبور المجهولة بآلاف الضحايا الذين قضَوا جوعاً أو حرقاً. ومع نزوحٍ جديد تجاوز 400 ألف إنسان، تترسّخ واحدة من أبشع الكوارث الإنسانية في تاريخ دارفور الحديث.
«غزّة الثانية»: النظير الإفريقي حيّاً على مرأى العالم
تشبيه الفاشر بغزة ليس مبالغةً بل تحذيراً صارخاً. أوجه الشبه دقيقة ومروّعة:
- حصار شامل يخنق شرايين الحياة ويقطع سبل البقاء.
- سكان محاصرون بلا ممرّات آمنة، مجبرون على الاختيار بين موتٍ تحت الحصار أو مجازفةٍ بنيران القنّاصة وحقول الألغام.
- مستشفيات سُوِّيت بالأرض وتحولت إلى ركام، في تحدٍّ سافر للقانون الإنساني الدولي.
- تجويعٌ ممنهج وانتشار أوبئة يُستَخدمان كأدوات حرب لتفكيك مجتمع بأسره.
الفارق ليس في حجم المأساة، بل في حجم الظهور: غزة تتصدّر العناوين وتُعقد لها جلساتٌ طارئة في الأمم المتحدة، فيما تُترك الفاشر للموت في الظلال — إبادة بطيئة على قارةٍ لا تُستحضر عادةً إلا بعد امتلاء القبور.
الدرس جليّ: ما يُتسامَح به في الفاشر سيتكرّر في أماكن أخرى؛ الصمت هنا ليس حياداً، بل تفويضٌ لكل طاغية ناشئ وراعٍ خارجي بأن الحصار والمجاعة والمجزرة أدواتٌ مشروعة بلا عقاب.
التعتيم الإعلامي: الحرب المنسية
ويُفاقم الكارثة تعتيمٌ إعلامي شبه مطبق؛ حتى غدت حرب السودان تُوصَف بـ«الحرب المنسيّة». فمنذ اندلاعها، استُهدف الصحفيون، ودُمِّر تسعون بالمئة من البنية الإعلامية، ولم يبقَ في ساحات دارفور سوى أقلّ من سبعين صحفياً.
أما فجوة التغطية ففادحة. ففي العشرين من مارس 2025 سجّل رصدٌ إعلامي واحد ما يلي:
- «`حرب أوكرانيا»: ثمانون مقالاً.
- «حرب غزة»: سبعة وخمسون مقالاً.
- «حرب السودان»: ثلاثة وعشرون مقالاً فقط.
من الذي يقرّر أيّ معاناة تُرى وأيّها تُمحى؟ الصمت هنا لم يكن غفلة، بل سياسة ، منظومة مقصودة: حرمانُ وصول، وترهيبُ صحفيين، وتردّدٌ جيوسياسي في مواجهة المموّلين والمهندسين الحقيقيين للحصار.
سلطة أبوظبي: الراعي، والمسلّح، والساتر الدبلوماسي
لم يعد خافياً أنّ الحرب في السودان وحصار الفاشر ليسا نزاعاً داخلياً، بل مشروعُ تدخّل خارجي تُديره سلطة أبوظبي عبر وكلائها، وتتضافر الأدلة على ذلك:
- جسور جوية من أبوظبي إلى تشاد وليبيا محمّلة بالأسلحة لإمداد الميليشيا، وفقاً لتقرير فريق خبراء الأمم المتحدة (S/2024/65)، الفقرات 41–49
- أسلحة صينية متطورة اشتراها جيش سلطة أبوظبي، ثم ظهرت بيد الميليشيا في الخرطوم ودارفور.
- طائرات مُسيّرة متقدّمة تعمل على طول خطوط الإمداد الإماراتية.
- واجهات مدنية مموّهة مثل الهلال الأحمر الإماراتي، استُخدمت لنقل الإمداد، ومن بينها ما يُسمّى مستشفى “أم جرس” في تشاد على تخوم دارفور.
- تحقيقات فرنسية وثّقت تحويل صفقات ذخيرة أوروبية بطرق مشبوهة إلى الميليشيا.
- أمّا كبريات الصحف العالمية مثل رويترز الغارديان ونيويورك تايمز ووول ستريت جورنال — فقد أجمعت على حقيقة قاطعة: «كلّ الطرق تؤدي إلى أبوظبي». حقيقةٌ كشفت أن النظام الإماراتي هو العصب المموِّل والمسلِّح لميليشيا الدعم السريع، والمحرّك لشبكات المرتزقة وتهريب السلاح عبر بونتلاند وتشاد وليبيا إلى قلب دارفور.
- أما الصحافة الكولومبية فقد أسقطت القناع، لتكشف جريمة أخرى تضاف إلى السجل الأسود لأبوظبي: تجنيد مئات المرتزقة الكولومبيين عبر شركاتها المرتبطة بها، ودفعهم إلى ساحات دارفور يقاتلون جنباً إلى جنب مع الميليشيا. هناك، تولّى هؤلاء المرتزقة تدريب الأطفال على القتل، وزُوّدوا بالسلاح ليحوّلوا البراءة إلى دماء، فيما تحوّلت مخيّمات النزوح — بعد أن أُبيد ساكنوها وطُرد من نجا منهم — إلى ثكنات عسكرية مكتملة الأركان؛ في أبشع صور الارتزاق العابر للقارات.
كل الخيوط تلتقي عند يدٍ واحدة: سلطة أبوظبي، الراعي والممول والساتر الدبلوماسي.
نداء للعدالة: مواجهة الجناة لا إدارة المأساة
- تسمية المعتدي وتصنيفه:
ميليشيا الدعم السريع جماعة إرهابية مسؤولة عن جرائم حرب موثّقة في السودان، وعن حصار الفاشر وتجويع المدنيين وارتكاب الفظائع الممنهجة. وعلى الاتحاد الإفريقي، استناداً إلى اتفاقية الجزائر 1999 ومجلس السلم والأمن، أن يعلن بلا لبس هذا التصنيف، فيما يتعيّن على مجلس الأمن الدولي أن يتجاوز حدود الإدانة اللفظية إلى إصدار قرارٍ ملزم يصنّف الدعم السريع منظمة إرهابية دولية. إن إدراج هذه الميليشيا ضمن أطر مكافحة الإرهاب وطنياً وإقليمياً وعالمياً كفيل بتجريم تمويلها وتجنيدها وشبكاتها اللوجستية والدعائية، ويفتح الطريق أمام ملاحقات قضائية وعقوبات موجّهة ضدها وضد رعاتها.
- تسمية الراعي وإنهاء الحماية الدبلوماسية
يجب إصدار نتائج علنية ورسمية بشأن الدعم الذي تقدمه سلطة أبوظبي لميليشيا الدعم السريع — بما يشمل السلاح والمسيّرات والمرتزقة والتدفقات المالية. وعلى المملكة المتحدة، بصفتها حامل القلم في مجلس الأمن لملفات السودان واليمن وليبيا — وهي ثلاث دول دمّرتها الحروب المدعومة إماراتياً — أن تكفّ عن عرقلة السودان في عرض قضيته ضد الإمارات. إن استمرار الحماية البريطانية لسلطة أبوظبي لا يضعف المساءلة فحسب، بل يرسّخ سياسة الإفلات من العقاب في العدوان العابر للحدود. كما يجب مواجهة سلطة أبوظبي ومساءلتها، ومعها الدول الإفريقية الأخرى التي حدّدتها تقارير الأمم المتحدة كجهات ميسّرة للفظائع الجماعية في السودان، والتخلّي عن سياسة التستّر عليهم خلف الأبواب المغلقة ولغةٍ دبلوماسية مائعة.
- تصحيح السرد:
يجب إنهاء المساواة المضلّلة بين الجيش السوداني — المؤسسة الدستورية المخوّلة بحماية الوطن — وبين ميليشيا مأجورة ذات رعاية أجنبية. فالدقة في اللغة ليست مجرّد بلاغة، بل شرط أساسي لفعالية العقوبات والإجراءات القانونية.
- إلى الاتحاد الإفريقي:
آن الأوان لطيّ سردية «انقلاب أكتوبر 2022» البالية، التي تحوّلت إلى أداة سياسية لتغطية حربٍ مدعومة من الخارج وإعفاء رعاتها من المسؤولية. يجب تسمية الأشياء بمسمياتها: الدعم السريع ميليشيا إرهابية ارتكبت أبشع الجرائم ضد السودان وأهله، فهي اليوم تحاصر الفاشر جوعاً وتقصفها قتلاً. وسلطة أبوظبي هي الآمر الناهي والمموّل الرئيسي لهذا العدوان. كما ينبغي فضح محاولات تبييض هذه السردية عبر واجهات سياسية أو شخصيات عامة — وفي مقدّمتهم عبد الله حمدوك — الذي لم يجرؤ حتى الآن على إدانة صريحة، وقد تحوّلت إطلالاته الدولية إلى غطاءٍ دبلوماسي مكشوف لتواطئه مع أجندة أبوظبي، ما جعله شريكاً في إخفاء وتبييض جرائم الميليشيا وشرعنة مشروعها التخريبي ضد السودان.
خاتمة
الفاشر اليوم ليست مدينةً عادية؛ إنّها غزّة إفريقيا ولينينغراد القرن الحادي والعشرين. صمودها يكتب تاريخاً جديداً، وحصارها يفضح عجز العالم. ما تتعرّض له من قصفٍ وقتلٍ وتجويعٍ وإبادة جماعية ممنهجة بتمويلٍ مباشر من سلطة أبوظبي، وتحت تعتيم إعلامي عالمي، ليس مجرّد مأساة إنسانية بل جريمة حرب وإبادة موثّقة الأركان.
والسؤال البديهي: هل سيبقى المجتمع الدولي متفرّجاً على جرحٍ مفتوح في جسد الإنسانية، أم سيتحرّك لإيقاف الجريمة قبل أن تتحوّل المقابر إلى لغة التاريخ الوحيدة؟ إنّ مصير الفاشر ليس امتحاناً للسودان وحده، بل اختباراً أخلاقياً وقانونياً للنظام الدولي برمّته: إمّا أن يثبت قدرته على حماية المدنيين وردع العدوان، أو يرسّخ سابقة خطيرة تجعل من حصار المدن سياسة مشروعة في الحروب المقبلة.
أما نحن كسودانيين، فلن نُسقِط الراية ولن نُسلّم الوطن. سنقاتل حتى آخر رمق، ولن تسقط الفاشر ولن يُقسَّم السودان. سنمحو هذه الميليشيا من أرضنا، ولن نُهزم ولن ننكسر بإذن الله. هذه معركة وجود، وسننتصر.
