العدالة المسمومة ..حين يتحول الشعور بالدونية إلى مشروع انتقام جماعي

عبدالعزيز يعقوب
(١)
في عالمٍ يئن تحت وطأة الحروب والمظالم الاجتماعية، تنشأ في بعض المجتمعات نزعة خطيرة جدا، السعي لتحقيق “عدالة” عبر تعميم الشر والظلم والأذى، بدلًا من رفعها عن الأفراد.
تحت قشرة هذا السلوك القاسي، يكمن جرح نفسي أعمق كثيرًا، وهو الشعور الجمعي بالدونية.
حين يتجذر الإحساس بالخذلان التاريخي داخل الإنسان، يتحول تدريجيًا إلى قناعة مفزعة: “إذا لم ننعم بالعدالة، فلن ينعم بها أحد.”
هكذا يتحول الفرد أو المجتمع الذي يرى نفسه ضحية إلى جلاد، وينقلب حلم تحقيق العدل والإنصاف إلى مشروع ظلم جماعي جديد، تدفعه هواجس نفسية.
في هذا المقال، نغوص قليلاً في تحليل هذه الظاهرة المعقدة وكيف يقود الشعور بالدونية إلى تشويه مفهوم العدالة؟ ولماذا يرى بعض من تملأ قلوبهم الكراهية أو تعرضوا لمظالم قادتهم إلى الشعور بالدونية، أن تساوي الجميع في الألم والظلم هو الشكل الوحيد الممكن للعدل؟
فهل يُعقل أن يصبح العدل في توزيع الظلم؟ وهل يُعقل أن من فشل في إقامة العدل والإنصاف، يقوم بتوزيع الظلم بعدالة؟!
(٢)
منذ فجر الفلسفة، كان هناك سؤال جوهري “هل يمكن تحقيق العدل بتوزيع أو تعميم الظلم؟”
أدرك المفكرون أن العدالة ليست مجرد توزيع متساوٍ للمعاناة، بل إقامة الحق وإنصاف المظلوم. وقد أجمع الفلاسفة والمفكرون عبر العصور على أن إقامة العدل لا تتم عبر تعميم الظلم.
أفلاطون رأى أن العدل يتحقق حين يوضع كل شيء في موضعه الطبيعي.
وأكد أرسطو أن العدل هو إعطاء كل ذي حق حقه، لا معاقبة الجميع بالتساوي.
وبيّن ابن خلدون أن الظلم مؤذن بخراب العمران، مهما شُرعن تحت شعارات كاذبة.
فالعدل لا يعني أن يتألم الجميع بالتساوي، بل أن يُرفع الألم والظلم أصلًا.
وفي التاريخ الحديث، رسّخ مفكرون كجون رولز مبدأ أن العدالة الحقة تعني بناء منظومة تحمي الضحايا و الأضعف، لا تحويل الجميع إلى ضحايا.
الشعور بالدونية أصبح وقودًا لتشويه العدالة. فعندما تتعرض فئة من الناس لظلم مستمر أو إقصاء ممنهج، أو تُصاب بأمراض نفسية نتيجة لذلك، تتولد داخلهم مشاعر الدونية والمهانة.
ومع تراكم الإحباط وتفاقم الجراح عبر الأجيال، يصبح الانتقام الجماعي مغريًا كوسيلة لتعويض الشعور بالنقص، وللأسف فإن هذا النقص يسكن في عقولهم ونفوسهم فقط.
(٣)
من هنا يظهر الانحراف الخطير في منهج التفكير السوي.
بدلًا من أن تسعى الجماعات المقهورة إلى رفع الظلم عنها وعن غيرها، تبدأ بتبرير نشر الظلم على الجميع بوصفه “عدلاً” جديدًا.
وهكذا تتحول مشاريع التغيير الاجتماعي إلى مشاريع انتقامية، تهدم المجتمعات بدلًا من أن تبنيها.
فكيف نواجه هذا الفكر المدمر ونُصحح المسار؟ لا يكفي مجرد إدانة هذا السلوك، بل يجب معالجته نفسيًا وفكريًا عبر:
1. التعليم الواعي: نشر ثقافة أن العدل رفع للظلم والألم، لا تعميمه على الجميع.
2. الاعتراف بالمآسي: يجب الاعتراف بجرائم الماضي، دون أن يكون ذلك مبررًا لارتكاب جرائم جديدة.
3. تعزيز مفهوم الكرامة: الكرامة لا تتحقق إلا بالسمو عن الحقد والرغبة في الانتقام.
4. التركيز على المستقبل: بناء مجتمع عادل وآمن لأطفالنا أهم من تصفية حسابات الماضي.
لا تصنع الشعوب حريتها عبر تقاسم المأساة، بل عبر تقاسم الأمل.
العدل الحقيقي لا يقوم على مساواة الجميع في الجرح، بل على مداواة الجراح وإنهاء دوائر العنف.
وحين نؤسس نظامًا يعيد الحقوق بدلاً من نشر الألم، نكون قد اخترنا الطريق الأصعب، لكنه الوحيد القادر على إنقاذ مستقبلنا.
العدالة الحقة ليست انتقامًا، بل شجاعة نفسية عظيمة تليق بالشعوب التي تطمح للبقاء والازدهار.
مراجع
1. أفلاطون، الجمهورية.
2. أرسطو، الأخلاق النيقوماخية.
3. ابن خلدون، المقدمة.
4. جون لوك، رسالتان في الحكومة.
5. إيمانويل كانط، أسس ميتافيزيقا الأخلاق.
6. جون رولز، نظرية في العدالة.
7. نيلسون مانديلا، خطابات المصالحة الوطنية بعد الفصل العنصري