رأي

السودان في قلب العاصفة: رئاسة كامل إدريس وفرصة التعافي الوطني

 

عبدالعزيز يعقوب 

في بلدٍ أنهكته الحرب، وابتلعته الفرقة، وأعياه الانقسام، جاء تعيين رئيسٍ للوزراء في شخص الدكتور كامل إدريس، بقرارٍ متأخر من المجلس العسكري، كخطوةٍ لا يمكن فصلها عن سياق ووضع بالغ التعقيد، عسكريا وسياسيًا وأمنيًا واجتماعيًا. لم يكن التعيين ثمرة حوارٍ شامل ومفتوح، ولا نتاجًا لتوافقٍ وطني عريض، بل بدا أقرب إلى محاولة إسعافية لملء فراغ قاتل في جهاز الدولة التنفيذي، وخطوةٍ لكسر الجمود وسط انشغال المؤسسة العسكرية بحربٍ بات واضحًا لكل ذي بصيرة أنها تستهدف السودان أرضًا وشعبًا وموارد.

بعضهم رحّب، وآخرون شكّكوا، فيما اختار كثيرون الوقوف في المنتصف، بين الحذر والأمل. أما شخصي الضعيف، فلا أرى في سعي الرجل للقيادة عيبًا، ولا في طموحه مأخذًا. فالخلاف لا ينبغي أن يكون على النوايا، بل على الطريقة التي تُدار بها المرحلة، وعلى طبيعة المشروع الذي يُبنى عليه مستقبل البلاد.

ما نعيشه اليوم ليس مجرد أزمة سلطة، بل أزمة ثقة، وانسداد أفق، وانهيار في قواعد العقد الوطني. إن السودان، وهو يحاول لملمة شتاته، يحتاج إلى أكثر من تعيين سياسي؛ يحتاج إلى مشروع تعافٍ وطني شامل، يتجاوز الحسابات الضيقة، ويعيد صياغة العلاقة بين الشعب والدولة على أسس جديدة، تبدأ بالحوار السوداني–السوداني، وتنتهي بترميم ما تصدّع في الوجدان الجمعي للأمة، وتأهيل نفسي عميق للإنسان السوداني.

تاريخيًا، يرى جان جاك روسو أن الشرعية لا تُستمد من المراسيم، بل من الإرادة العامة. وهذه الإرادة، وإن خفت صوتها تحت ركام الحرب، لا تزال ممكنة إذا استُنهضت بمسؤولية وشجاعة. لكن لا بد من الاعتراف بأن هذا التعيين جاء في لحظة طارئة دولة منهكة، وجهاز تنفيذي غائب، وجيش مثقل بحربٍ وجودية. لذا، لا عجب أن يلجأ المجلس العسكري إلى إجراء فوقي، رغم انه يرقَ إلى مستوى الطوارئ أو الأحكام العرفية، كما في الأعراف والحالات المشابهة زمن الحرب، بل كخيار اضطراري أراه الأفضل للخروج من لحظة انسداد خانقة.

ورغم أن القرارات الفوقية لا تصنع ديمقراطيات، فإنها قد تفتح ممرًا ضيقًا نحو الحوار، إذا أُحسن التعامل معها. الأهم أن لا يُفهم هذا التعيين كسلطة مفروضة، بل كبداية تستوجب المساءلة، والانفتاح، والتشارك، لا الإقصاء أو الاستفراد.

وهنا، يأتي دور الشعب. واتمني ان “يقظة الشعب” لا ينبغي أن تتحول إلى منابر للتخوين، أو منصات للتخويف. فالوطن لا يُبنى بالاتهام، ولا يُنقذ بالصراخ. نحن بحاجة إلى نقدٍ مسؤول، ووعيٍ جماعي يرفض الانجرار إلى صراعات رمزية تستهلك طاقة الناس بلا طائل، وتعمّق فقدان الثقة بين مكونات الشعب السوداني.

إذا كانت رئاسة كامل إدريس قد فتحت بابًا للحوار، فلنجعل منه مدخلًا لمشروع حقيقي للتعافي الوطني، لا مجرد جولة جديدة من الصراع السلبي على المواقع. آن الأوان أن تجلس القوى السودانية إلى طاولة الحوار لانتاج طاقة إيجابية، لا لتصفية الحسابات، بل لبناء الثقة، وتصفية الخوف، وإيقاف التخوين والبدء في كتابة صفحة جديدة تُعيد الاعتبار للدولة، وتمنح الشعب ما يستحقه من كرامة وأمان ومشاركة.

في زمن الخراب، لا يصمد إلا من يملك شجاعة البناء. والسودان لا يزال يملك هذه الفرصة، فيجب علي القوي الحية والشعب إن نتخلّص من أوهام التخوين، ونتحاشى لعنة التخابر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى