أمجد فريد
تنعقد انتخابات الرئاسة الأميركية يوم 5 نوفمبر القادم وسط أحداث ومتغيرات عالمية كبيرة مرتبطة بالولايات المتحدة بشكل كبير. ولعل أبرز هذه الملفات الأوضاع المتفجرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والحرب الروسية الأوكرانية، بالإضافة إلى الحرب المستمرة في اليمن. وهي ملفات تحظى باهتمام كبير لدى دوائر صنع القرار الأميركي، بل تنخرط بعض هذه الدوائر في تشكيل تفاصيلها ومتابعتها بشكل يومي.
ولكن في خضم هذه التقلبات الدولية المتزايدة، فإن حرب السودان تحظى باهتمام متزايد في الأوساط الدولية وفي السياسة الخارجية للولايات المتحدة. ولعل ذلك مرتبط بالانخراط المباشر للولايات المتحدة وتدخلاتها- عبر سفيرها السابق في الخرطوم السيد جون غودفري- في الأوضاع السياسية التي سبقت الحرب. وهي تدخلات لم تكن إيجابية على الإطلاق، بل أشار إليها بايتون كنوف، نائب المبعوث الأميركي السابق إلى السودان في مقال أخير له بعنوان “سنوات التفكير السحري عن السودان”، بأنها “فشلت في منع اندلاع الحرب، بل في أسوأ الأحوال ساهمت في اندلاعها”.
ولكن لا يتعامل المبعوث الأميركي الحالي بيريليو مع تركة السفير السابق غودفري فحسب، بل أيضا مع ضعف الإدارة الأميركية وعدم تناسق عمل أجهزة السياسة الخارجية الأميركية وانعدام وجود استراتيجية واضحة أو هدف موحد لدوائر صنع القرار الأميركي حول كيفية إنهاء الأزمة الحالية في السودان.
وهناك أسباب أخرى متعددة للاهتمام الأميركي بالسودان. فقد تسببت الحرب في أكبر كارثة إنسانية معاصرة، راح ضحيتها ما لا يقل عن 150 ألف مواطن مدني حتى الآن، بالإضافة إلى حوالي 25 مليون نسمة في حاجة ماسة للمساعدات الإنسانية، و12 مليونا ونصف المليون نازح ولاجئ تم تشريدهم من منازلهم داخل السودان وإلى الدول المجاورة.
الكارثة الإنسانية في السودان وخصوصا المجاعة الضارية التي ضربت السودانيين، قد تكون أسوأ كارثة إنسانية في المئة عام الأخيرة. وحتى الآن لا يزال العجز المادي عن تغطية الميزانية التي قدرتها منظمات الأمم المتحدة الإنسانية للتعامل مع هذه الكارثة يبلغ نحو 60 في المئة من الحاجة الفعلية. وبالتأكيد سيعجز العالم عن الاستمرار في تغطية الاحتياجات الإنسانية التي يحتاجها المدنيون في السودان إلى الأبد، وكلما طال أمد الحرب، زادت هذه الكلفة بمعدلات متصاعدة، خصوصا مع الدمار المتزايد الذي أصاب البنية التحتية الزراعية والاقتصادية في السودان جراء هذه الحرب، وهو ما يهدد بخلق حالة مرهقة من الاعتماد على المساعدات الخارجية بشكل لا يمكن استمراره.
بالإضافة إلى ذلك، شهدت السنة ونصف السنة الماضية من الحرب في السودان، ارتكاب فظائع غير مسبوقة وانتهاكات شنيعة للقانون الدولي، بلغت حد تصنيف الإبادة الجماعية في حالة بعض المجازر التي ارتكبتها ميليشيا “قوات الدعم السريع” خلال هذه الحرب، كمجزرة الجنينة التي شهدت جرائم قتل واسعة على أساس الهوية ضد مجتمع المساليت، وذلك غير جرائم العنف الجنسي واغتصاب السيدات والفتيات واختطافهن واستعبادهن وبيعهن في بعض الأحيان، وجرائم التشريد القسري والتجويع المتعمد ونهب الممتلكات وغيرها. وكلها انتهاكات من غير المقبول السماح باستمرارها أو غض النظر عنها في سياق القانون الدولي.
كذلك تتنافس الولايات المتحدة مع قوى دولية أخرى، مثل روسيا والصين وإيران، على النفوذ في منطقة الساحل والسودان، مما يخلق ديناميكيات معقدة تؤثر بشكل كبير على طبيعة الصراع الحالي. وهذه المنافسة ليست مجرد صراع على الموارد أو المصالح الاقتصادية، بل تتعدى ذلك إلى محاولة كل طرف فرض رؤيته السياسية والاستراتيجية على المنطقة.
في هذا السياق، فقدت الولايات المتحدة والغرب عموما نفوذهما في كثير من دول المنطقة. وتزايد النفوذ الروسي على أفريقيا الوسطى ومالي وبوركينا فاسو، بالإضافة إلى وجودها الكثيف في ليبيا. وفي الأعوام الأخيرة، بدأت فرنسا تفقد نفوذها على الجارة الغربية للسودان تشاد، مقابل تزايد النفوذ الروسي هناك. وتمتد العلاقات الروسية مع الدول الأفريقية التي كانت في دائرة النفوذ الأميركي سابقا إلى ما هو أكثر من العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية ومبيعات السلاح، لتتضمن استخدام ونشر مجموعات المرتزقة الخاصة مثل مجموعة “فاغنر” التي تمت إعادة هيكلتها مؤخرا وتسميتها باسم “الفيلق الأفريقي”. وهو ما يثير قلق الولايات المتحدة بشكل خاص.
وفي خضم هذه الحرب، قامت الحكومة السودانية مؤخرا بتطوير العلاقات مع روسيا، وإعادة إحياء اتفاق إنشاء قاعدة بحرية روسية على سواحل البحر الأحمر السودانية بالإضافة إلى اتفاقات تعاون عسكري ومبيعات سلاح لم يتم الإعلان عن تفاصيلها. وهو الأمر الذي قد يثير مزيدا من حفيظة الولايات المتحدة ويزيد من اهتمامها بالملف السوداني.
وأيضا تعتبر الولايات المتحدة أن الاستقرار في السودان له أهمية استراتيجية بالنسبة لأمنها القومي، خاصة فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب وحماية المصالح الأميركية في المنطقة. فعلى الرغم من العلاقات المتوترة والعقوبات التي كانت تفرضها الولايات المتحدة على السودان خلال عهد حكم الرئيس المخلوع عمر البشير، ظل التعاون الاستخباراتي بين أميركا والسودان على أعلى المستويات منذ ما بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001. كما أن سواحل السودان الممتدة على البحر الأحمر- الذي يشكل معبرا لأكثر من 60 في المئة من حجم التجارة العالمية- تشكل عاملا آخر لأهمية السودان الجيوسياسية وخطورة انفجار الأوضاع فيه.
وفي فبراير/شباط 2024، عينت الولايات المتحدة، بعد ضغوطات كبيرة ومتصاعدة من الكونغرس حول فشل استراتيجية الإدارة الأميركية في التعامل مع الوضع في السودان، عينت السيد توم بيريليو كمبعوث خاص للسودان. وقد تم تعيين بيريليو بواسطة الإدارة دون التصديق على تعيينه من الكونغرس لمدة ستة أشهر ومؤخرا تم التجديد له لستة أشهر أخرى دون تصديق من الكونغرس وهو ما يجعل هذا التجديد هو الأخير له ولا يحق له الاستمرار في منصبه بعد انتهائه في فبراير المقبل.
وقد أجرى السيد بيريليو مشاورات متعددة مع أطراف سودانية متنوعة، وتمخضت جهوده عن الدعوة لمفاوضات جنيف في الفترة من 14–24 أغسطس. وهي المفاوضات التي قاطعها الجانب الحكومي السوداني وشارك فيها وفد ميليشيا “قوات الدعم السريع” منفردا. وقد تمخض جبل مفاوضات جنيف عن تكوين مجموعة المتحالفين من أجل تعزيز إنقاذ الأرواح والسلام في السودان، ليعمل على تيسير عملية التفاوض من أجل إنهاء الحرب في السودان ويضم أطرافا دولية وإقليمية اعترض الجانب السوداني على إشراكهم في المفاوضات من أجل السلام بالأساس.
لقد انتهى مولد مفاوضات جنيف دون تحقيق الأهداف المرجوة منه والتي تم الإعلان عنها في الدعوة إليه، وخلص إلى تكوين هذه المجموعة التي انخرطت- بدلا من التركيز على الأهداف السياسية للتوصل لوقف إطلاق نار، أو التدخل السياسي بالضغط على المتحاربين لإيقاف الحرب- في متابعة خطوات جزئية عملياتية متعلقة بانسياب مساعدات إنسانية هي من صميم واجبات وأعمال وتفويض العاملين الإنسانيين على الأرض. ويبدو أن توجه هذه المجموعة، والذي تم بمباركة وإشراف أميركي، يهدف إلى خلق حالة تطبيع الأوضاع في السودان والتعايش مع الأزمة بالإضافة إلى خلق شعور بأن المجتمع الدولي أو الجهود الأميركية تفعل شيئا ما في مخاطبة الوضع.
في خضم كل هذه المتغيرات، تأتي الانتخابات الأميركية والتي انحصر التنافس فيها بين مرشحة الحزب الديمقراطي، نائبة الرئيس الحالية كامالا هاريس، ومرشح الحزب الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترمب. وقد ازداد الاهتمام مؤخرا في الدوائر الأميركية بخصوص أزمة السودان في محاولة للتغطية على فشل السياسة الخارجية الأميركية للإدارة الحالية فيما يتعلق بأزمة الشرق الأوسط.
وفيما تتسم السياسة الخارجية الأميركية عادة بوجود أركان وقواعد ثابتة في الملفات ذات الأهمية لا تتغير مع تغير الانتخابات، فإن هذه القاعدة لا يبدو أنها تنطبق على الوضع السوداني. فالتمايز بين مواقف الحزبين الديمقراطي والجمهوري يبدو كبيرا، ويعكس اختلافاً أيديولوجياً آخر بين الحزبين. فبينما يركز الديمقراطيون عادة على دعم الدفاع عن حقوق الإنسان ودعم جهود التحول المدني الديمقراطي بشكل أساسي، فإن تركيز الجمهوريين ينصب على الحفاظ على الاستقرار والتعاون بشكل برغماتي مع حكومات الأمر الواقع.
ولعل المثال على هذا الفرق يبدو واضحا عند النظر إلى بداية فرض العقوبات الأميركية على السودان والذي بدأ في 1993 خلال حكم الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون، بإدراج اسم السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب والذي تطور لدرجة قيام سلاح الجو الأميركي وبأمر مباشر من الرئيس كلينتون بقصف مصنع الشفاء للمنتجات الدوائية تحت زعم تصنيعه لأسلحة كيماوية، ومقارنة ذلك ببدء التعاون الاستخباراتي بين السودان والولايات المتحدة في عام 2001 تحت حكم الرئيس الجمهوري جورج بوش الابن، ثم رعاية الولايات المتحدة عبر منبر أصدقاء “الإيقاد” ومجموعة الترويكا (التي ضمت الولايات المتحدة وبريطانيا والنرويج) للمفاوضات التي أفضت إلى اتفاقية السلام الشامل في 2005 والتي أنهت الحرب الأهلية في جنوب السودان وهي الحرب الأطول في القارة الأفريقية. ولكن الكونغرس (والذي كان تحت سيطرة الديمقراطيين في ذلك الحين) لم يكن يقف مكتوف الأيدي، حيث أصدر الكونغرس الأميركي في 2006 قانون عقوبات ضد “الأشخاص المسؤولين عن الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية”. وهو ما استمر يعكس الخلافات الأيديولوجية في السياسات الخارجية للحزبين بخصوص السودان.
وخلال حرب السودان الحالية، تبدو هذه القضايا والاهتمامات متداخلة ويتشعب بعضها من بعض. حيث إن جذور الحرب ترجع بشكل أساسي إلى الانقلاب على الحكومة الانتقالية التي كانت في مسار التحول المدني الديمقراطي. وفشل شريكا الانقلاب بعدها في تكوين حكومة قبل أن ينخرطا في الصراع على السلطة وهي الحرب التي كشفت الوجه الحقيقي لميليشيا “قوات الدعم السريع” وعدم اتساق أي احتمال لمستقبل وجودها المؤسسي مع أي شكل من أشكال الحياة المستقرة أو الحكم الطبيعي في السودان.
بالإضافة إلى أن الانتهاكات والفظائع التي يتم ارتكابها بكثافة، يغطيها بعض الفاعلين الدوليين- وهم من أهم وأكبر حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة- بغطاء من الحصانة المؤسسية التي تحول دون تناولها بشكل مباشر. ومع كل هذه التعقيدات، ترتفع أصوات ناقدة من الحزبين لتعامل الإدارة الحالية مع الأزمة في السودان.
كل هذه العوامل، تجعل من استنتاج التحولات المتوقعة في السياسة الأميركية بعد الانتخابات في حال فوز أي من الحزبين أمرا صعبا، ولكن الاستنتاج الوحيد المؤكد هو تغيير القائمين على إدارة ملف السودان من الجانب الأميركي بعد الانتخابات المقبلة، ولكن ماذا ستكون استراتيجية تعاملهم الجديدة؟ هذا هو السؤال.